الحسين شهيداً وإماماً للإصلاح.. رؤية سُنيّة
30 ديسمبر 2009 - محرر الموقعالحسين شهيداً وإماماً للإصلاح.. رؤية سُنيّة
مهنا الحبيل
2009-12-30
تأخذك الرجفة حين تكتب.. وينتفض قلبك مهابةً للإمام الحسين عليه السلام، فأنت تتحدث عن مقام قلبي لا تستطيع أن تُسطّر له ما يكافئه أو ما يقابله وجدانياً.. فحديثك هنا عن الحسين سلام الله عليه هو في خطابٍ عن بضعة المصطفى التي انحدر منها، وهي السيدة الزهراء فاطمة البتول عليها سلام الله عند كل صباح وأفول.. وهو في حديثك عنه أيضاً تقف عند الإمام الأكرم المكرم أمير المؤمنين علي عليه السلام، وقبل ذلك وبعده وفي أثنائه أنت عند أعتاب جده سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. الذي زكاه حياً ولاعبه طفلاً يشتمّ روحه ويأنس به ويبهجه ثم يبشره بالجنة بل ويرثيه ضمناً بأبي هو وأمي.. فأين منك القلم وما يسطرون.. وأين منك الحادي الحزين وما ينشدون.. فلا يفي الدهر إذاً عن حزننا عليه وشوقنا إليه وجده ووالديه وآل البيت والصحبة المرضية صلى إله العرش عليهم وسلم.
ولا نزال مهما طاف بنا الزمان وعادت بنا الأيام نفجع بواقعة استشهاده ونعصر القلب قبل دمع العين.. بل لا تكاد تطيق إكمال الصفحة في قصة استشهاده أقلبتها عند ابن كثير أو الطبري أو الذهبي، فهي رقعة من الحزن المسفوح للدم المسفوك لسيد شباب الأمة وتاج رؤؤسهم بشهادة من لا ينطق عن الهوى.. ولا نزال بما قدّم الإمام الحسين في سبيل أمته ودعوة نبيه وإحقاق الحق وإبطال الباطل عليه شهودا معتقدين، وبإيماننا معتنقين، أن ما كان عليه رضي الله عنه وجاهد في سبيله ومات دونه خروجٌ لنصرة الحق وإعلائه ورفض استشهادي لباطل التوريث الذي أُلحق بالأمة بغياً.. نقولها كما تعلمناها وحفظناها في عقيدة أهل السنة ولا نزال بها حتى تنفرد السالفة موالين لعهد رسول الله وآل بيته وصحبته المطهرين.
وكون أن أهل السنة يثبتون الصحبة لمعاوية، فذلك لا يجاور ولا يمس فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ففضله أكبر من أن يذكر معه معاوية فضلاً عن أن يُفاضل به، وقد ثبت في معتقد أهل السنة كيف قُدّم المهاجرون والأنصار على مُسلِمةِ الفتح، فكيف بعلي رضي الله عنه وأرضاه، والكف عن قدحه لثبات صحبته لا يخفف من خطيئة تولية مجرم الحرب الأثيم يزيد بن معاوية عليه من الله ما يستحق، وما كان السلف رضي الله عنهم يوردون ذكره إلا أتبعوه بالسب والانتقاص وأثاروا الوجدان والبراءة من عمله وغدره وفجوره، وما قلبت من مصادر التاريخ السنية إلا رأيت ما قرروا فيه تجريمه، ولم تزلّ قدمٌ نعرفها من علماء أهل الُسنّة المتقدمين المعتبرين فيعتذر للمجرم الأثيم وخطيئته في حق الأمة وما أصابها من حكمه، وفي حق سيد شبابها وجدان المصطفى وزهرة آل البيت الحسين بن علي سلام الله عليه.
ولا عذر للقبيح الآثم المجرم الماجن يزيد، ولا تأول ولا تبرير، وإنما نكفّ عن إطلاق اللسان أدباً مع سيدنا رسول الله واتباعاً لسنته وهديه، فهو حظُنا وجد الحسين وحظه، عند مقامه أقامنا الله، وبسنته استهدانا، وبهديه استرشدنا، وإن قلوبنا بسبطه مفجوعة، وعند دمائه مَروعة، ولكننا نرى في دروس الحسين ما هو أعظم من التطبير وأعزُّ مقاما ووفاء لأبي عبدالله سلام الله عليه من المنائح، ومتوافقين مع ما قرره أئمة التجديد في الطائفة الإمامية، ونرى فيه قدوة تاريخية للأمة أكبر من اللطم عليه والتطبير بأبي هو وأمي.. ولسنا في ذلك نكفّ دموعا هطلت بل وأمطرت على الحسين، لكن له حقٌّ آخر، ولكن فلنتحدث عنه ودروس الإمام كزعيم إصلاحي مجدد لآثار النبوة وهدي الراشدين في إمامة العدل والحق.
الحسين مجدد الإصلاح السياسي الأول
إن مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم منهجيتين تهمّاننا في استلهام الدرس من موقف الإمام الحسين رضي الله عنه، وهو تأكيده على أن أول انحراف يمسّ رسالة الإسلام وحال أمته هو نقل الحكم من الخلافة الراشدة إلى المُلك العاضّ، ومن ثم الحكم الجبري، بل إنه صلى الله عليه وسلم ذكَر أنّ أول ما يُنقض من آثار النبوة هو العدل المرتبط باختيار الأصلح للأمة، وهو ما تعاقبت عليه واستقرت وظهر فيه قوة المبدأ في العهد الراشد وبالذات في عصر الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ومن بعد عمر قعّد لهم رضي الله عنه قاعدة الانتخاب باختيار صفوة معروفين، وهذه الحالة في التعيين إنما تُقدّر بقدر الحالة الزمنية والظروف المكانية، بمعنى أن قاعدة الانتخاب هي الأصل وحين تتوفر إمكانية تحقيقها بأوسع مدار لاختيار الحكم الراشد تنفّذ، وهي في حالة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه تُشكّل تطورا تاريخيا في سبقٍ زمني لثقافة الأمم ومنهجيتها في تقعيد الشراكة الشعبية، وما تعنيه هذه القاعدة الانتقائية من الخبرات الثقات لتحديد التوازن في الهيئة الانتخابية التي شكّلها عمر تعكس هذا المعنى المتقدم، سوى أن ما يجري بعد عهود التزكية الأولى لآثار النبوة التي تعاضدت النصوص النبوية على تحريرها، ليس له ما ورد في فضل الشيخين وما أدركت الأمة من عهد مثالي في تقوى الحاكم وإشفاقه من خشية أن يمس شعب أمته أو من في ذمتهم من غير المسلمين أي ظُلمٍ أو حيف.
وعلى ذلك جرى عهد عثمان، وإن كان تسامحه رضي الله عنه وسّع تدخل الإقطاعيين وتمددهم، إلا أن فضله وعدله ورأفته بأمته وشعبه وصلت إلى الحد الذي ناشده أهل البيت سلام الله عليهم أن يأذن لهم بمقاتلة أهل البغي الذين يحصرونه وأهله، ويأبى أن يُمس فرد من أبناء شعبه وأمته حتى ولو كانت النتيجة تهديد حياته، وهو ما جرى حين فُجعت الأمة بحدثٍ تقشعر منه الأبدان والوجدان، فيُذبح أمير المؤمنين حبيب رسول الله ويندفع دمه على مصحفه ومسجده، هنا يبرز لنا حجم عظمة عثمان في هذه الروحانية التي تُعلي عملياً وتنفيذياً مسؤولية الإمام ورفقه بأمته لدرجة أنّ الصحابة وآل البيت رأوه مفرّطاً رضي الله عنه بأمنه، إلا أنهم التزموا أمره فمضى حيث بشره رسول ربه صائماً يُفطر عند رسول الله وبنتيه زوجتي الخليفة الشهيد عثمان رقية وأم كلثوم عليهم السلام.
وعلى هدي العدل والحزم كان أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام، ولولا الفتن لكان عهده من عهد الشيخين وما رسخ في زمنهما من واقع الاستقرار، ولكن الفتن التي أُشعلت في وجهه وتعجّل المطالبين بالثأر لعثمان في غير حق متأولين، كما هو موقف الزبير رضي الله عنه وأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، وهو ما اعتذرت عنه فيما بعد، وهناك من أثاروها قاصدين لغَرضٍ خاص، فقد خالفوا القاعدة الشرعية للزوم طاعة أمير المؤمنين علي، وما كان ليُفرط في دم عثمان وحاشاه، لكنهم لم يمهلوه، ومع ذلك كان أبو الحسن في سيرته وروحانيته ومنهجية عدالته في السمو الأعلى للقيادة السياسية الإسلامية الأمينة للأمة.
وأمام هذه المدارس الكبرى عاش الحسين عليه السلام يُدرك منازل الحق ومنارات الهدى لحق الأمة في الحكم الرشيد، وإن هذا الانحراف الذي قرر رسول الله خطورته لا يجوز أن يبقى دون أن يُبطل أو يُجاهَد ويُكافح حتى تستدعي الأمة مقام العدل وحقوق الرعية وانتخاب الصالح ونبذ الفاسد ولا تُعطي الدنية في دينها لكونها أمة البلاغ للخلاص والعدل، ولذا خرج مُجدِّداَ ناقضاً لثقافة إقرار الاستبداد أو التسليم لتولية فاسد ظالم على عهود المسلمين، وخاصةً أن ذلك في الصدر الأول، فيُشرّع الظلم وتولية الفساق على أنه من التشريع الديني، بل كان الاحتجاج العسكري عليه الذي قاده الحسين الأول في درسه وعهده، وعليه فإن خروجَ الإمام على ظالمٍ فاسد في الصدر الأول هو من تجديد الدين ورفض ما يعلق به أو يُقرّ تشريعيا، وهو في ذلك رضي الله عنه مجدّد لآثار النبوة، وكونه خرج وهو يرى في نفسه أهلاً للولاية لإقامة العهد بالعدل وليس لتوريث الأنبياء لذريتهم عقباً بعد عقِب، وهو ما لم يرد في سيرتهم صلى الله عليهم وسلم، لكون أن مفهوم تحويل الأمة إلى ميراث لآل الأنبياء يصطدم مع أصل فكرة التوحيد وإقامة الرسالة وكونها مهمة الأنبياء وحوارييهم ومن بعدهم، وليس توريث ذريتهم، وهو أيضاً يصطدم مع منهج الاستدلال الحضاري وبناء شريعة العدل وتكافؤ الفرص وسيادة العدل الأمين، وهي مقاصد تواترت عليها النصوص وهي الأصل، ولذا لم ينص رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً قطعيا في خلافته رغم العشرات من الإيحاءات التي تُزكي أبا بكر رضي الله عنه.
فخروج الحسين وفقاً لهذا السياق لا يقدح فيه أنه يطلب الأمر لنفسه، ففي ذلك صلاح أمة جده وهديها فيما يُستنتج باجتهاده، وإن كان الصحابة رضي الله عنهم استشعروا أن الشوكة لدى الإقطاعيين الفاسدين لا تزال قوية رغم إجماعهم على فساد من تولى، وأن الحسين لا يُقارن ذِكره بيزيد، فضلاً عن أن يقال إن الحسين خيرٌ منه، وتقديم الحسين مبادرته وما يعلمه من احتمالية استشهاده ومن ثم إصراره على مبارزة الطغاة دون أن يُعلن وهو المجدد أنه يتنازل لهم، كان معهدا ومشهدا لا يفي تصويره بمعانيه، لكن المهم غير المشهد الجنائزي هو الوعي الفلسفي بمعنى معركة الحسين عليه السلام مع الباطل وإقامته لشرعة الحق واستشهاده في سبيله.
إنني أعتقد أن احترام الإمام الحسين ورسالته لا يليق معها أن يحول ذلك الفكر التجديدي العظيم إلى منائح جنائزية ولا نقصد مآتم العزاء المعتدلة، وإنما ذلك التفويج لدمج نثر الدماء مع التحريض الملتهب للكراهية وإن كانت والله لوعة لا يغادرها الزمن ولكن مع الاعتدال في التعبير العاطفي وهو ما يليق برسالة الحسين فإن استخلاص الدروس من سيرته وسيرة الحسن بن علي الخليفة الخامس الراشد رضي الله عنه هي ما تُعلي كرامة الأمة بتعظيم الحسين وما خرج في سبيله، وهي كذلك خطاب يوحّد ويُعزز بالحق، وايم الله إن كان آل بيته صلى الله عليه وسلم وآله إلا دعاةً للحق والوحدة، وما كانوا وحاشاهم سدنة جنائز وإنما سادة خطاب وتبليغ ونور مبين.. سلام الله عليهم وعلى الحسين شهيدهم وشهيد الأمة أجمعين.
mohanahubail@hotmail.com