أ . عالية فريد >> أخبار و مقالات


أعلنوها حرباً على الفساد ( منع من النشر )

2 يناير 2010 - مكتبة مساواة

أعلنوها حرباً على الفساد ( منع من النشر )

السبت 05-12-2009 م الموافق 18-12-1430 هـ

 
شتيوي الغيثي

 

ماذا يمكن أن يكتب كاتب عن مأساة جدة؟ عن مئات الضحايا الذين ذهبت أرواحهم في رشة مطر؟ عن آلاف الناس الذين تركوا منازلهم؟ عن آلاف المواطنين الذين ذهبت ممتلكاتهم؟ عن المليارات التي اختبأت في جيوب لا يعرفها أحد؟ عن المنشآت التي دمرت؟ عن الطرق التي تهدمت؟ عن كل أحلام المواطنين التي ضاعت هباء؟ عن صرخات الألم التي كتمتها سيول الأمطار؟. عن طفلة جرفتها المياه وغطاها الطين؟ عن الجثث التي انتشلت من تحت الأنقاض؟ حتى الحزن والبكاء صودر علينا فلا يجب أن نبكي أو نحزن! ويصبح المواطن (الضحية) هو السبب في الكارثة! فهو من يقع عليه الخطأ لأنه صرف (تحويشة) العمر في مخططات سبق أن سمُح البناء فيها، كما أنه هو من يتحمل العقوبة الإلهية لفساد الأخلاق الذي استشرى في المجتمع في حين يسلم المتسببون في الفساد من هذه العقوبة بسهولة وبقدرة قادر!!.. أي منطق هذا الذي يطفح فيه خطابنا الرسمي وخطابنا الديني والإعلامي؛ إذ يجعل الضحية هو الجلاد؟!.

    كانت كارثة جدة فاجعة بكل المقاييس. كانت فضيحة الفضائح. كانت المأساة أكبر من الصدمة. كانت الصور مربكة لنا جميعاً ومؤلمة ومخجلة. لقد كشفت مأساة جدة عن الخلل الكبير في البنية التحتية لدى مشاريعنا وأفكارنا وتعاملنا مع الأرض ومع الإنسان. كشفت عن الأقنعة التي كنا نستر بها عيوبنا. عن حجم الفساد والكذب والغش والخداع والنفاق الذي يستشري ويمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومهمة إعلامنا الورقي والمرئي والإلكتروني الرسمي هنا هي المديح الكاذب ومسح الجوخ.

  الغضب الشعبي كان شديداً، وكانت المطالبات ترتفع لمحاسبة المتسببين أو المقصرين، وتأتي وقفة الملك الإنسان لتعيد للشعب بعض صرخاته، ولتكون بلسماً شافياً لآلام أبنائه المواطنين، ولتعيد لهم بعضاً مما أخذ منهم.

  كان الفساد ينخر في جدة منذ سنوات، كما ينخر في بقية مدن المملكة؛ لكن جدة كانت الصورة الأكثر جلاء للمشكلة، فبريقها الجذاب لم يفلح مطلقاً في إخفاء حجم الخلل في بنيتها التحتية، والكل هنا مسؤول ولا يمكن استثناء أحد من هذا الخل سواء كانوا من الفاعلين أو من الوارثين، وخادم الحرمين الشريفين نص على محاسبة المسؤول (كائناً من كان)، وجملة (كائناً من كان) هذه لا يمكن أن تضع استثناءات لأحد مهما كان من منصب في الدولة.

      الفساد الذي افتضح أمره في جدة له الكثير من النسخ الكربونية في كل مناطق المملكة، وله من النماذج المشابهة في كل مكان من دوائرنا الحكومية ووزاراتنا بشكل أو بآخر، فالبنى التحتية في كل مدن المملكة تحتاج إلى إعادة نظر، والتخطيط العشوائي والارتجالي أسلوب الحياة الإدارية السعودية، في حين أن المبالغ تدفع بالملايين لإصلاح الأوضاع، لتجد بعد فترة أن هذه الإصلاح يذهب إلى تحسين الواجهات الزجاجية، وتغيير أطقم المكاتب وغيرها ولا تجد أثراً ملموساً إلا جمالياً دون تحسين المسائل الوظيفية أو المهنية لدى الموظفين، كونه الأهم والأسبق على المسألة الجمالية إذ أن بناء الإنسان سابق على بناء العمران. كل أساليب التطوير ما هي إلا شكليات وآخر ما يهم هنا هي راحت المواطن. الفساد ليس في الأمانات فقط، وإنما لدى كل القطاعات. هل يمكن أن نستثني الفساد الصحي؟ وهل يمكن أن نستثني الفساد التربوي؟ أو الفساد القضائي؟ أو هل يمكن أن نستثني قطاع الأعمال أو الإعلام؟ أو التوظيف أو المالية أو الأمنية، أو الخدمات المرافقية في كل مكان؟ في المثل الشعبي يقال: (أن الشق أكبر من الرقعة)، وإذا كان الوضع كذلك، فلماذا لا يتم استبدال القطع التي يراد ترقيعها كاملة بقطعة جديدة لا تحتاج إلى ترقيع. لماذا نحن مولعون بالترميم أكثر من الإصلاح الجذري؟ إن الذهنية العامة هي ذهنية طوارئ أكثر منها ذهنية تخطيط. ربما يعود ذلك إلى أننا لم نتعود على التخطيط المستقبلي.. لم نتعود هذا التخطيط في مدارسنا، ولم نتعوده في حياتنا اليومية، ولم نتعوده من الآخرين، كما أننا لا نعرف أدنى مستويات حقوقنا وواجباتنا، إذ تؤخذ الأنظمة من أفواه الموظفين ارتجالاً والمواطن هو الضحية في الأخير.

  يقال: (من أمن العقوبة أساء الأدب) والمسؤولون جميعهم أمنوا العقوبة. لم نسمع مطلقاً لموظف في دائرة حكومية من تمت محاسبته على الملأ فضلاً عن من هم أكبر من مسؤولين في القطاعات عامة، ولو أن كارثة جدة دفعت بالمحاسبة، ربما لبقية الأوضاع مؤجلة حتى الآن.

  إن لجنة التحقيق التي شكلها خادم الحرمين الشريفين تحتاج إلى تشكيل لجان مشابهة في كل مدن المملكة وألا تقف عند كارثة جدة، بل من المفترض أن تمتد إلى كل قطاعات الدولة ولتعمل على مراجعة كل الخلل ولابد ألا تكون كارثة جدة استثناء من التصحيح العام والإصلاح.

  إننا بحاجة إلى لجان متفرغة ومستقلة تتبع الملك مباشرة في كل مدينة تدور على كل قطاعاتنا الحكومية، ولها صلاحيات المحاسبة حتى نستطيع تدارك مايمكن تداركه من خلل وإفساد. إن الفرصة مواتية الآن في إعلان الحرب المستمرة على الفساد واستنفار كافة القوى الإدارية في لجم الفساد كما هو الحرب على الإرهاب. إن الفرصة الآن لابد ألا تذهب هكذا دون أن نستفيد منها في إصلاح الخلل. كما أنن بحاجة إلى خطط أكثر جرأة في الإصلاح الجذري وتسريع عملية الإصلاح أكثر وأكثر حتى لو أربكت الجميع. المهم ألا تصبح كارثة جدة هي المعنية الوحيدة في الإصلاح. صحيح أنها بحاجة إلى الإصلاح السريع قبل غيرها لكن مدن المملكة الأخرى هي بحاجة إلى الإصلاح أيضا حتى لا تكون كارثة شبيهة بكارثة جدة، فالتنمية في بعض المدن ماتزال في بداياتها حتى الآن؛ إذ تركزت التنمية سابقاً على مدن المراكز على حساب مدن الأطراف، ولنا في مدن الجنوب والشمال مثال واضح جداً على هذه التنمية البدائية.
المصدر: منبر الحوار:
http://www.menber-alhewar1.info/news.php?action=view&id=5302

أضف تعليقاً