ما يتهدّد الديمقراطيّة
2 يناير 2010 - مكتبة مساواةما يتهدّد الديمقراطيّة
الثلاثاء 01-12-2009 م الموافق 14-12-1430 هـ
ترجمة : مختار الخلفاوي
خرجت الديمقراطيّات ظافرة من مواجهتها ضدّ الشموليّة، ولم تعد مهدّدة تهديدا جدّيا من خطر الُثيوقراطيّات التي تقوم هنا أوهناك، على أنّ ما يهدّد الديمقراطيّة، فعلا، هي الانحرافات المتأتّية من داخلها.
إنّ الديمقراطيّة اللّيبراليّة تقوم على مبدأين أو صيغتيْن سياديّتيْن: سيادة الشعب المحقّقة للمساواة بين كلّ المواطنين والدفاع عن الصالح العامّ من جهة، وحرّية الأفراد داخل مجال تخلّص من الضبط الجماعيّ، من جهة ثانية. ولئن كان هذان المبدآن لا يتعارضان تعارضا مباشرا فإنّهما، أحيانا، يشهدان توتّرا بينهما. والسبب من وراء ذلك أنّ سلطة الشعب وضعت بين أيدي قادته، والحال أنّ هؤلاء القادة بشرٌ كسائر الناس. وكان ” مونتسكيو ” الممثّل الأوّل للفكر اللّيبرالي في فرنسا يحذّر، حينها، من ذلك الأمر بقوله ” أثبتت التجاريب أنّ صاحب السلطان محمول على استغلال النفوذ..”
وللتخفيف من هذا الخطر، ساعدت الديمقراطيّات على قيام تعدّديّة مزدوجة الأطراف: تعدّديّة حزبيّة تضمن التنوّع في الآراء السياسيّة، وتعدّديّة في صلب السلطة متى تجسّد عملها في مؤسّسات مستقلّة فإنّ بعضها يحدّ من غلواء بعض. أمّا استغلال النفوذ فيتمثّل في الاستبداد بالسلطة واحتكارها. ولنا في الإدارة الأمريكيّة السابقة مثالٌ على ذلك. فلقد وصلت هذه الإدارة إلى حدّ تقنين التعذيب بتعلّة أنّ ذلك ممّا تقتضيه مصلحة الدولة.
في فرنسا، تتّخذ التهديدات الموجّهة إلى الديمقراطيّة شكلا آخر. والمثال الكلاسيكي على استغلال النفوذ هو سعي السلطة التنفيذيّة إلى التأثير في سير العدالة. وهكذا، رأينا رئيس الجمهوريّة يحرّك تتبّعات قضائيّة في قضيّة ( كليرستريم – Clearstream (1) ) ليصير، في الوقت نفسه، الخصم والحكم.
“لديّ ثقة في العدالة”. هكذا صرّح الرئيس ليظهر حياده، وكان عليه أن يضيف: “مادامت خطّة القضاء تحتَ امرتي !”
خلال فصل الصيف، شغلت الناسَ محاكمة أخرى (المعروفة بمحاكمة “عصابة الهمّج” – gang des barbares ( 2 ) ). غداة المحاكمة، طالب الممثّلون الرسميّون للطائفة اليهوديّة بتشديد الأحكام، فاستجاب القضاء على الفور. وبذلك، فقد وضعت العدالة نفسها في خدمة مجموعات الضغط والاعتبارات الفئويّة. ولم يكنْ لرئيس نقابة القضاة إلاّ أنْ يسجّل، بأسف، أنّ السياسة قد أحكمت قبضتها على العدالة.
أمّا استقلاليّة وسائل الإعلام الكبرى تجاه السلطة التنفيذيّة فهي مسألةٌ لا تقلّ قيمةً. صحيح أنّ فرنسا لم تبلغ درجة ما بلغته إيطاليا من خلط بيْن الإعلام والسلطة، حيث يشرف رئيس الحكومة ( بيرلسكوني – المترجم ) على عدّة قنوات تلفزيّة عموميّة، ويمتلك، في الوقت نفسه، بعض القنوات الخاصّة. ومع ذلك، وبحسب تحويرات تشريعيّة جديدة، فإنّ الحكومة صارت هي التي تعيّن المسؤولين عن وسائل الإعلام العموميّة وليس هيئة مستقلّة. كان التبرير الذي قُدِّم لهذا التحوير مثيرا للضحك. يزعم هذا التبرير أنّ التحوير حصل لاطّراح النفاق جانبا لأنّ تلك الهيئة “المستقلّة” كانت، على كلّ حال، تنصاع للأوامر ! ومن المعلوم حقّ العلم أنّ النفاق هو ظهور الرذيلة في ثوب الفضيلة. وبالإمكان إزالة النفاق بطريقتيْن متعاكستيْن: فإمّا عبر فضحه، وإمّا عبر محاولة إقصائه. وهكذا، فقد نُظِر إلى التعيينات التي أعقبت هذا القرار على أنّها مرتبطة بمصالح شخصيّة. وفي الاتّجاه ذاته، تفهم عمليّات الترهيب التي عانى منها عددٌ من الصحفيّين، فوقع التحفّظ على محرّر من جريدة ( ليبراسيون – Libération)، وأُخضع لعمليات تفتيش مهينة في قضيّة تشهير، ولقي صحفيّ من جريدة ( لوموند – Monde ) المعاملة نفسها لأنّه غطّى تظاهرة اُعْتُبِرت غير مرغوب فيها.
لكيْ تظلّ السلطة التنفيذيّة وفيّة لمبادئ الديمقراطيّة، ينبغي عليها أن تحافظ على استقلاليّة السلطات الأخرى محافظتهاعلى استقلاليّة بعض الأنشطة كالبحث عن المعرفة.
كان ( كوندورسيه – Condorcet )، وهو ممثّل آخر للفكر اللّيبراليّ، قد عبّر عن هذه الحاجة زَمَنَ الثورة على النحو التالي: “ليس من حقّ السلطة العموميّة تقرير أين تسكن الحقيقة وأين يوجد الخطأ.”
هذا الحظر قد وقع انتهاكه بمناسبة “قضيّة غيسير Vincent Geisser “، في الصائفة المنقضية. بدأ ( فانسون غيسير )، وهو باحث في المركز الوطنيّ للبحث العلميّ ( CNRS )، تحقيقا يتناول المدرّسين المنحدرين من أصول مغاربيّة مهاجرة. في العام 2007 ، طلبت منه الإدارة التوقّف عن بحوثه. واكتشفنا، بهذه المناسبة، أنّ بالمركز (CNRS )”مسؤولا عن الأمن والدفاع” مكلّفا بمراقبة الدراسات السوسيولوجيّة والسوسيوسياسيّة التي تعتبر حسّاسة، وبخاصّة تلك الدراسات عن الإسلام. كما علمنا، أيضا، أنّ هذا الضرب من التدخّلات لم يكن أمرا استثنائيّا وأنّ ذلك المسؤول ذاته قد كتب إلى باحثين آخرين ليعبّر عن رفضه لآرائهم وبحوثهم. وفي أساس الموضوع، فإنّ قرار المركز يبقى محيّرا: هل ينبغي أن تحظَر البحوث خشية من أنّ نتائجها لا تعجب السلطة؟ تماما، كما لو أنّنا نكسر كلّ موازين الحرارة لكيْ نتيقّن من أنّ الحمّى ليست شديدة.
إنّ المبادئ الأخلاقية التي قبل بها الجميع تؤشّر على تحديد مخصوص لممارسة السلطة السياسيّة. كان بينجامين كونستان (Benjamin Constant )، وهو رائد آخر من روّاد الفكر اللّيبراليّ، يؤكّد، في بداية القرن العشرين، أنّ “قانونا يحضّ على الوشاية ليس قانونا. وأنّ قانونا يحظر تقديم ملاذ لمن التجأ إلينا ليس قانونا.” على أنّ المادّة (L. 622-1) من قانون الأجانب ينصّ على أنّ كلّ مَن يقدّم مساعدة إلى شخص أجنبيّ بلا وثائق قانونيّة – ولو بتقديم وجبة طعام – يعاقب بخمس سنوات سجن، ويغرّمُ بـ 30000 أورو.
وعلى الرغم من إنكار وزارة الهويّة الوطنيّة، فإنّ ذلك التهديد قد وضع، فعلا، في طور التنفيذ لإفشال كلّ عون يمكن أن يقدَّم لهؤلاء المنبوذين. وفي نفس الإطار، ووجهت التظاهرات المساندة لهم بعنف حتّى أنّ أحد المشاركين فيها فقد إحدى عينيه على يد الشرطة.
لعلّ التعدّدية القائمة على استقلال السياسيّ عن الاقتصاديّ أنْ تكون الأساس المهمّ للمسار الديمقراطيّ. وهذه الحاجة تستلزم من القادة السياسيّين نقاء أخلاقيّا، فعلى سلطتهم وسداد آرائهم تترتّب التزامات أدقّ من التزامات المواطنين العاديّين: سلوكهم ينبغي أن يكون مثالا يحتذى، فلا يعرّضون أنفسهم لشبهات المحاباة والتواطؤ مع القوى الاقتصاديّة أو العمل هنا وهناك في الوقت نفسه، ولا أنْ يستفيد أقاربهم من الامتيازات المخوّلة لهم لتحقيق منافع خاصّة. إنّ المحسوبية و”الزبونيّة” والفساد ليست اختراعات مستجدّة، غير أنّها تبقى أمورا غير مقبولة. لقد وضعت استقلاليّة الفعل الاقتصادي موضع التساؤل تحت حكم النظام الشموليّ الذي فضّل الخيارات السياسيّة على ما عداها ( متاجر فارغة، خصاصة دائمة ). أمّا الآن، فإنّ استقلاليّة السياسيّ هي المعرّضة لضغوط تأتي من جهات عدّة. وجعلت العولمة من الفاعلين في الحياة الاقتصاديّة خارجين عن مراقبة الحكومات المحلّية: عند العقبة الأولى، تقوم الشركات المتعددة الجنسيات بنقل مصانعها إلى بلد أكثر حفاوة. وفي داخل كلّ بلد، لا تدع أيديولوجيا الغلوّ اللّيبراليّ مجالا كافيًا للفعل السياسيّ.
إنّه من الواجب أن يقع تمييز هذه الأيديولوجيا عن الفكر اللّيبراليّ الكلاسيكيّ. ففي حين يحترم الفكر اللّيبراليّ الكلاسيكيّ تعدّد القدرات والمبادئ ويدافع عنها، فإنّ اللّيبراليّة المتطرّفة ليبراليّة أحاديّة ترمي إلى إخضاع المجتمع إلى قوّة واحدة هي قوّة السوق غير المحدودة. تنطلق هذه اللّيبراليّة المتطرّفة من مصادرة أنتربولوجيّة غريبة مفادها أنّ الفرد مكتف بنفسه، وتختزل هذا الفرد المزعوم في حيوان ذي احتياجات اقتصاديّة صرف، ثمّ لا تترك أيّ مجال للسلطة السياسيّة رغم أنّها المسؤولة عن المصلحة العامّة.
إنّ المَلكيّة، وإنْ كانت انتخابيّة، ليست هي الديمقراطيّة. فمن الناحية النظريّة، تظلّ مؤسّساتنا وفيّة للمبادئ الديمقراطيّة، ولكنّها، في الممارسة، قد تتحوّل إلى مجرّد واجهات لسلطة فرديّة مطلقة.
كيف، إذن، نطلب من السكّان ما ليس في قادة البلاد؟ إنّ الديمقراطيّة تقوم على توازن هشّ بين مكوّنات المجتمع. وفي هذه اللّحظة، ثمّة دلائل كثيرة تشير إلى أنّ هذا التوازن معرّض للخطر.
* عن جريدة ( لومند ) 15 – 11- 2009 15 – 11- 2009
* تزفيتان تودوروف ( Tzvetan Todorov ) فيلسوف وناقد ومؤرخ فرنسيّ بلغاريّ الأصل. ولد في صوفيا سنة 1939. هاجر إلى فرنسا عام 1963 وعمل مديرا للأبحاث في المركز الوطني للأبحاث العلمية، وأصدر عشرات الكتب نشرت في أكثر من 25 لغة.
آخر مؤلّفاته مُتَخَيَّر من المقالات والبحوث يرصد مسيرته الفكريّة عنوانه (Seuil, 474 p . – La Signature humaine ).
الهوامش:
1. قضيّة كليرستريم (Clearstream ) : قضيّة ماليّة سياسيّة تورّط فيها ساسةٌ ورجال مال في فرنسا. عرفت كليرستريم ( 1) سنة 2001، ثم كليرستريم ( 2) سنة 2004.
2. قضيّة عصابة الهمّج ( gang des barbares ): تتعلّق بمحاكمة قتلة الشاب اليهودي إيلين حليمي في فرنسا سنة 2006 من قبل عصابة تطلق على نفسها هذا الاسم. وتمّت محاكمة القتلة في أفريل سنة 2009 وأثارت جدلا واسعا.
المصدر: موقع الآوان، على الرابط:
http://www.alawan.org/%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%91%D8%AF.html