غزة بعد عام على “رصاص إسرائيل المصبوب”
3 يناير 2010 - جريدة القبسغزة بعد عام على “رصاص إسرائيل المصبوب”
الانقسام يكمل الحصار ويعمق الصراع
المصدر: جريدة القبس الاربعاء 23 ديسمبر 2009 ,06 محرم 1431 , العدد 13135
إعداد: منى فرح
تحل اليوم الذكرى السنوية الأولى لعملية «الرصاص المصبوب» الإسرائيلية، فيما الخراب والدمار الذي خلفهما الهجوم البري والجوي والبحري لا يزالان يعمان قطاع غزة: حركة إعادة الإعمار والإنماء معطلة (وتقريبا لم تبدأ بعد) لعدم توفر مواد البناء. فإسرائيل تبقي المعابر مقفلة وتحظر استيراد الفولاذ والاسمنت والأنابيب والزجاج وغيرها، بحجة أن حركة حماس ستستخدمها في تصنيع صواريخ وقذائف ومتفجرات، فيما آلاف العائلات تعيش منذ عام كامل تحت خيام مرتجلة، ومثلهم يتكدسون في شقق أقاربهم أو يعيشون في المدارس. كما أن الحجج الإسرائيلية هذه لا توفر حتى المواد التموينية البسيطة، مثل حليب الأطفال والأدوية وحتى المعكرونة وسواها.
قبل أيام أصدرت 16 منظمة للإغاثة والمساعدات الإنسانية وحقوق الإنسان تقريرا انتقدت فيه بشدة الأسرة الدولية لفشلها في إنهاء الحصار الإسرائيلي، وقالت «إن العالم خذل غزة بإبقاء الحصار». لكن هناك أيضا من يلقي بجزء من المسؤولية على مصر المسؤولة عن معبر رفح (المنفذ الآخر للقطاع). كما أن كثيرين يرون أن الانقسام الداخلي أكثر قسوة وخطورة على الشعب الفلسطيني عموما وأهالي القطاع خصوصا. فالانقسام يقوي الموقف الإسرائيلي ويمنحها الحجة الأقوى، وفي الوقت نفسه يعرقل أي اختراق دبلوماسي لحل أو حتى لإدارة النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
بعد سنة على عملية «الرصاص المصبوب»، التي لم تخلف لا غالبا ولا مغلوبا على الصعيد السياسي، يعلن الطرفان اللذان يتربص كل منهما بالآخر (إسرائيل وحماس) وكأنهما يعدان لجولة ثانية: الجيش الإسرائيلي أعلن عزمه إجراء تدريبات في مارس المقبل على مواجهة إطلاق صواريخ من غزة، وحماس أكدت أنها مستعدة لـ»حرب» جديدة، وقالت إنها تقوم بتطوير ترسانتها العسكرية. ودون وجود هدنة حقيقية أو حسم صفقة تبادل الأسرى، فلن يتوقع أن تتخلى إسرائيل عن الضغط على حماس. وباستثناء الجهود المضنية التي تقودها مصر في مسار المصالحة الوطنية -دون هوادة منذ آكثر من عام- فان الانقسام الفلسطيني يصبح يوما بعد يوم أكثر عمقا وديمومة، خصوصا عشية موعد الانتخابات. والقاهرة، كما جاء في إفتتاحية الاهرام قبل يومين، ملتزمة بنهج حل القضية الفلسطينية والمصالحة الفلسطينية الفلسطينية «كيفا جاءت مواقف الفرقاء الفلسطينيين» في إشارة الى موقف حماس ودمشق وطهران.
يظل العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، الذي استمر 3 أسابيع (من 28 ديسمبر 2008 حتى 18 يناير 2009) هو الأكثر ضراوة بكل المقاييس، في خلال أربعة عقود في عمر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ حرب1967. وطبقا للأمم المتحدة فقد خلفت الحرب أكثرمن 1400 شهيد فلسطيني، معظمهم من المدنيين، مقابل 13 في صفوف الإسرائيليين (9 عسكريين و4 مدنيين). ولحق الدمار الكامل بأكثر من 3530 منزلا في غزة وتعرض أكثر من 2850 منزلا لدمار شديد و52900 لدمار طفيف. ودمرت أيضا جامعات ومدارس ومستشفيات ومستوصفات ووزارات، بالإضافة الى مقار أمنية ومراكز شرطة تابعة لحركة حماس.
أكواخ الطين أفضل من الخيم
وأيضا طبقا للأمم المتحدة فان آلاف العائلات الفلسطينية لا تزال تعيش في خيام مرتجلة نصبت على الأنقاض دون خدمات أو.. فقبل أسبوع فقط سلمت وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة أول منزل من بين أكثر من 120 منزلا تبنيها في غزة لتقديمها الى العوائل الفلسطينية خلال الأشهر القليلة المقبلة، وقدرت كلفة بناء البيت الواحد بنحو 10 آلاف دولار.
ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن جون جنغ مدير الوكالة في غزة قوله إنهم اضطروا لبناء هذه المنازل من طابوق من الطين المضغوط لأن السلطات الإسرائيلية لا تسمح لمواد البناء كالحديد والاسمنت من الدخول الى غزة.
وتصر إسرائيل على أن مثل هذه المواد قد تستخدم من قبل حماس لصناعة أسلحة أو تدعيم بناها ومنشآتها العسكرية، رغم أن مسؤولين في الأمم المتحدة عرضوا غير مرة ضمانات بأن لا تستخدم هذه المواد إلا في أعمال إعادة البناء.
ويضيف جنغ «أن أكواخ الطين ليست حلا لإعادة بناء غزة، لكنها تظهر كم هي محبطة الأوضاع هناك بعد مرور سنة، إذ يحلم الناس الذين يعيشون في الخيم البدائية بالحصول على مأوى مؤقت حتى لو كان من الطين».
ويشكو من دمرت بيوتهم من أنهم مضطرون للتكدس في بيوت أقاربهم أو تأجير شقق أو شراء المواد بأسعار السوق السوداء الغالية لإصلاح النوافذ أو الجدران المتضررة. حتى الشرطة في غزة اضطرت لإعادة بناء احد مراكزها من الطين، كما استخدم العديد من السكان الطين لبناء منازل بسيطة لهم.
وفي اتصال هاتفي مع «القبس» شرح لنا المحلل السياسي طلال عوكل (مقيم في غزة) كيف أن العديد من الأهالي الذين فقدوا منازلهم لا يزالون يعيشون تحت خيم من القماش لا يرد برد الشتاء ولا حر الصيف. ويضيف عوكل «عندما يهطل المطر (كما هو الحال في أيام الشتاء اليوم) يضطر المشردون للاحتماء تحت أغطية من البلاستيك داخل خيامهم، لكن مع ذلك الماء يتسرب إليها».
ويشير عوكل في هذا الخصوص الى أن حركة حماس كانت قد دفعت مبالغ مالية بسيطة لا تتعدى الألفي يورو لبعض العائلات «لشراء أثاث بسيط للخيمة وإعادة بناء منزل!»
العالم «خذل» غزة
تجمع التقارير الصحفية على أن مناطق القطاع برمتها تئن تحت وطأة انقطاع التيار الكهربائي بشكل يومي وأيضا من ندرة المياه وتردي نوعيتها مما يتسبب في انتشار الأمراض المميتة.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أعرب اخيرا عن أمله في أن تسمح إسرائيل بدخول المواد الضرورية لإعادة البناء في غزة. وانتقد المقرر الخاص لمركز «أنباء» التابع للأمم المتحدة والمعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، ريتشارد فالك، الحصار الإسرائيلي الذي أدى الى استمرار انقطاع التيار الكهربائي الذي يعاني منه 90% من السكان ونظام الصرف الصحي بسبب رفض إسرائيل السماح بدخول قطع الغيار لإصلاح الأضرار.
لكن الانتقاد الذي جاء في تقرير أصدرته 16 منظمة للإغاثة والمساعدات الإنسانية وحقوق الإنسان لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لعملية «الرصاص المصبوب»، لم يقتصر على إسرائيل، بل طال الأسرة الدولية برمتها «لفشلها في إنهاء الحصار». فقد قال مدير منظمة اوكسفام البريطانية، جيريمي هوبز، إن «العالم خذل أهالي غزة العزل.. لقد فركوا أياديهم وأصدروا البيانات، لكنهم لم يتخذوا إجراء ذا مغزى لتغيير السياسات المدمرة التي تحول دون إعادة البناء وتعافي الأفراد وتنشيط الاقتصاد».
فمنذ الهجوم الإسرائيلي قبل عام لم يسمح سوى لنحو 40 شاحنة مواد بناء بدخول القطاع، فيما تعاني عملية إعادة البناء من ترد بسبب الحصار والعقوبات الدولية (المفروضة أساسا من قبل إسرائيل ولكن أيضا من أطراف أخرى وتلقى بعض التأييد الدولي). وفي آخر فصول الحصار فرضت السلطات الإسرائيلية الجمعة إغلاقا شاملا على معابر غزة التجارية (معبر كرم أبو سالم ونحل عوز والمنطار). وأعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية بأن الحصار سيظل على الأرجح مفروضا على غزة حتى في أعقاب الإفراج عن الجندي الإسرائيلي المخطوف جيلعاد شاليط، واصفة القطاع ب«الكيان المعادي».
وفي السياق نفسه، قامت السلطات المصرية بإغلاق معبر رفح «إلى أجل غير مسمى» وذلك عقب خلافات رئيسية مع حماس بخصوص مرور قافلة «شريان الحياة 3» التي تحمل مساعدات طبية وانسانية لمليون ونصف المليون إنسان محاصر داخل القطاع منذ أربع سنوات، وذلك وسط آنباء تتحدث عن شروع مصر في بناء جدار فولاذي على طول حدودها مع غزة وبعمق يصل الى 18 مترا.
الوضع يزداد سوءا
الوضع في القطاع اليوم أسوأ مما كان عليه أثناء العدوان، «ويزداد سوءا يوما بعد يوم». هذا ما قاله “للقبس” القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جميل مجدلاوي.
وأضاف مجدلاوي عبر الهاتف «لا يوجد أي منفذ أو بارقة أمل لتخفيف وطأة الحصار. فالمنزل الذي يتهدم لا يمكن إصلاحه، والشارع الذي تحفر فيه حفرة لأي سبب من الأسباب لا يمكن صيانتها، والشباب الذين يتزوجون لا يمكنهم تأمين مسكن مستقل لهم، مئات الأصناف من الدواء غير متوفر، مياه الشرب ملوثة، السماد الضروري للزراعة غير متوفر لان إسرائيل تزعم انه يمكن استخدامه في صناعة المتفجرات وبالتالي يضطر المزارعون للاستعاضة عن السماد الطبيعي بمواد يجمع ذوي الاختصاص أنها تحتوي على عناصر مسرطنة. كل يوم يأتي على أهالي غزة في ظل هذا الانقسام والحصار يكون أكثر قسوة من سابقه».
بدوره، أكد لنا فتحي شاهين، مسؤول مكتب رعاية عوائل الشهداء والجرحى في غزة التابع لمنظمة التحرير، أنه لم يتم إعمار شيء «لأنه ببساطة المعابر مقفلة.. حتى الجانب الإغاثي المؤسساتي لم يتمكن من فعل شي للسبب نفسه».
ويضيف شاهين أن البضائع الوحيدة التي تدخل غزة تكون عبر الأنفاق، وهي لا تلبي كل حاجات الأهالي. كما الاستفادة منها تقتصر على أشخاص دون غيرهم، أي الميسورين ماديا والمنتمين لفئة حزبية معينة»، في إشارة الى حركة حماس التي تسيطر على جميع قطاعات غزة بما في ذلك حركة العمل في الأنفاق.
ويؤكد شاهين أن المساعدات الوحيدة التي يستطيع المكتب تقديمها للأهالي هي الأموال المخصصة لعائلات الشهداء والجرحى، والتي تصل عن طريق حوالات بنكية من وزارة المال التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله، وتصرف لأصحابها بالطريقة نفسها.
المسؤولية الأميركية
في تقرير نشرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أشار الباحث الأميركي ناثان براون الى أنه نادرا ما تتم، على الأقل في دوائر السياسة الأميركية، مناقشة الدرجة التي دمر فيها اقتصاد المدنيين في غزة نتيجة العقوبات الدولية (المفروضة أساسا من قبل إسرائيل ولكن أيضا من قبل مصر مع بعض التأييد الدولي الأوسع). ويضيف «واضح لماذا لا تريد إسرائيل إدخال المواد العسكرية إلى غزة، لكن ليس من الواضح على الإطلاق لماذا تعتبر المعكرونة والورق مواد خطيرة تهدد أمنها!».
ويشدد براون على وجوب الاعتراف بحجم الكارثة التي لحقت بالقطاع نتيجة الحصار أولا وعملية «الرصاص المصبوب» ثانية. «فقد تم تدمير اقتصاد غزة حتى قبل الحرب الأخيرة، والآن تم تدمير جل البنى التحتية إلى جانب عدد كبير من المنازل، كانت عمليات الإغاثة ممكنة إلى حد ما، لكن عمليات إعادة الإعمار لم يسمح بها على الإطلاق، وهذا يجب أن يكن مهما لنا جزئيا لأنه يهم الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم– هؤلاء الذين يعتبرون الولايات المتحدة مسؤولة جزئيا عن الكارثة الإنسانية– وينبغي أيضا أن يهمنا الأمر لأنه من الواضح أن الغرض الذي من جعل قدرة حماس على الحكم مستحيلة– أتى بنتائج عكسية، إذ استخدمت حماس سيطرتها على اقتصاد الأنفاق كي تتخندق بقوة».
ويتابع براون أن واشنطن ضغطت «بصمت» لتخفيف عدد من الجوانب الأكثر قسوة من الحصار المفروض على غزة، لكنها لم تفصح سوى عن «النزر اليسير» في العلن، وأيدت ضمنيا الكثير من عمليات الإغلاق عبر الفشل في الضغط بشدة من أجل إعادة الإعمار، «فتجاهل معالجة معاناة أهالي غزة يقوض الدبلوماسية الأميركية الإقليمية».
حماس والانقسام الفلسطيني
وإذ يربط براون بين الممارسات الإسرائيلية والموقف الأميركي من جهة، وبين قرار إنهاء أو تقويض سلطة حماس من جهة ثانية، يلفت النظر إلى انه لا توجد حلول سريعة لتحدي حماس، التي (برأيه) «تحصنت في القطاع وتحظى بتأييد قوي في بعض مجتمعات الشتات أيضا، وهي اليوم في مرحلة سبات فقط في الضفة الغربية».
بدورها، إسرائيل لا توفر مناسبة من دون أن تعلن أن «حماس هي المسؤولة أولا وأخيرا عن حصار قطاع غزة». وتشدد على أن «العقوبات ستبقى مفروضة طالما ظلت حماس ملتزمة بتدمير إسرائيل».
وفي تصريح أدلى به قبل أيام لوكالة رويترز للأنباء، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية يغال بالمور «على من يريد أن تصبح غزة على اتصال بالعالم أن يعمل على إنهاء حكم حماس الإرهابي أولا، بحيث يمكن السماح بالعبور والحركة مع إسرائيل ومصر».
والرأي القائل بتحميل حماس بعض مسؤولية الحصار يلقى تأييدا حتى في أوساط فلسطينية، لا سيما السلطة وحركة فتح وغيرها من الفصائل التي تختلف مع نهج الحركة الإسلامية.
ففي مؤتمر صحافي مشترك مع الأمين العام للجامعة العربية، عمرو موسى، عقب لقائهما (الخميس) في مقر الأمانة العامة للجامعة في القاهرة، قال رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية الدكتور صائب عريقات «إن عدول حماس عن انقلابها في غزة ينهي المأساة الفلسطينية».
واعتبر عريقات أن «اقصر الطرق لتوحيد الشعب الفلسطيني وإنهاء حالة الانقسام تكمن في توقيع وثيقة الوفاق الوطني (وقعت عليها حركة فتح في مصر) حتى يصار لرفع الحصار بشكل تام عن القطاع»، واصفا انقلاب حماس بـ«السيف المصلت على القضية الفلسطينية».
ويوافق القيادي في الجبهة الشعبية، جميل مجدلاوي، هذا الرأي. ويرى أن الانقسام الداخلي «لا يقل وطأة عن الحصار». ويضيف «القطاع اليوم يحكم من قبل سلطة تنفرد بها حماس. وهذا بذاته من شأنه أن يفاقم الأزمات السياسية كما الاقتصادية كما الاجتماعية. لان تداعيات الانقسام تلقي بظلالها على سلوك حماس سواء في علاقتها مع الفصائل الفلسطينية الأخرى أو بباقي العمل الوطني والإسلامي وبعلاقتها مع الجمهور بشكل عام. مع ملاحظة خصوصية الملاحقة والاعتداءات المتبادلة التي تشنها الحكومتان (رام الله ضد أبناء حماس وحكومة غزة ضد أبناء فتح على وجه الخصوص)».
ويضيف مجدلاوي «الانقسام الداخلي أكثر خطورة على قضيتنا من الحصار. لان الحصار والعدوان الإسرائيلي متوقعان، ومن واجبنا أن نكون مستعدين لهما أما الانقسام فهو وجه أكثر قبحا وضررا. فبسبب الحصار أولا، وانشغالها بتفاصيل الصراع الداخلي والانقسام ونتائجه، فان سلطة حماس بالكاد تستطيع تغطية النفقات الجارية الخاصة بسلطتها وبالتالي تهمل كل الجوانب الأخرى التي يدفع ثمنها المواطن الفقير والأعزل».
الممانعة والموالاة
وهناك من يرى أن الانقسام الداخلي «أساء كثيرا للقضية الفلسطينية واضعف أصحابها أمام الشعب الفلسطيني والعالم أجمع، وبالمقابل دعم حجج إسرائيل التي لا تحتاج أساسا لحجج لتستمر بعدوانها وتعنتها تجاه الحقوق الفلسطينية»، بحسب المسؤول في مكتب رعاية شؤون عوائل الأسرى والجرحى فتحي شاهين.
ويؤكد المحلل السياسي طلال عوكل أن المواطنين يعون الحصار وأسبابه، ويعون بالقدر نفسه تداعيات الانقسام الوطني وويلاته «الذي أوصلهم الى حد اليأس»، في إشارة الى عام من الحوار والوساطة العربية والدولية لم تسفر حتى اليوم عن بارقة أمل.
ويضيف عوكل «ان الانقسام العميق والمتوسّع بين رام الله وغزة يفسد أي اختراق دبلوماسي لحل (أو حتى لإدارة) النزاع مع إسرائيل، لأنه يمنع الفلسطينيين من التحدث بصوت واحد، ناهيك عن العمل بطريقة متسقة». فيما يرى الباحث الأميركي ناثان براون أن «الانقسام أصبح أعمق وأكثر ديمومة من المبادرات الدبلوماسية الدولية التي تجاهلته والتي لا يناهز عمرها عمر الزهور».
ويشير براون إلى أن هذا الصدع في الصفوف أغرق الفلسطينيين في حال من الكرب والأسى. وإذا ما نحينا جانبا الدور المصري (الذي يقود جهودا مضنية للمصالحة) نجد أن الأسرة الدولية (بقيادة الولايات المتحدة) ساعدت تارة من خلال الإهمال وطورا عن سابق تصور وتصميم على تعميق الانقسام وتجذره».
لكن عوكل يستدرك ليضيف أن المسؤول عن الانقسام الداخلي هي إسرائيل «صاحبة المصلحة الكبرى، وبعد ذلك تلومين جهات فلسطينية وعربية». ويضيف «إذا كان لإسرائيل مصلحة فلماذا نعطيها الفرصة؟ هناك تمترس بالنسبة للأطراف الفلسطينية، خصوصا بالنسبة لحماس لأنها لم توقع على الورقة المصرية. هناك أطراف داخلية من مصلحتها وأد المصالحة في مهدها، خصوصا تجار الأنفاق، وهم ليسوا معزولين اجتماعيا ولا سياسيا.. ويجب ألا ننسى مسؤولية بعض الأطراف العربية والإقليمية (الممانعة والموالاة) والحسابات الخاصة بالوضع في الأراضي الفلسطينية على وجه الخصوص وفي المنطقة بوجه عام».
أقطاب الفلسطينيين المتنافرة
لقد أصبح قطاع غزة والضفة الغربية يمثلان قطبين متنافرين في دولة فلسطين المستقبلية، مما يزيد العقبات أمام حلم الدولتين (فلسطين وإسرائيل) تتعايشان جنبا إلى جنب. ففي تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست قال هاورد شنايدر إن «ثقافة حركة حماس الإسلامية- التي ترى في القضاء على إسرائيل أسمى أهدافها- تسيطر على القطاع. وعلى النقيض تماما، أصبحت الضفة الغربية منفتحة وعلمانية إلى حد ما، بينما تحاول حكومتها حل النزاعات مع إسرائيل عبر الوسائل السياسية والدبلوماسية».
ويضيف شنايدر أن الاختلافات وضعت الفلسطينيين على أقطاب متنافرة وعلى جانبين مختلفين من الصراع الثلاثي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتركت أثرها على حياتهما وقيمهما، بل ووضعهما. كما أن أشكالا مختلفة من العداوة نشأت حتى داخل المنزل الواحد، لاسيما في وجود الحواجز الإسرائيلية التي تعرقل المرور من وإلى قطاع غزة وتقوض النمو الاقتصادي بها بهدف تقليل الدعم الشعبي لحكومة حماس الإسلامية في القطاع. فمناطق الضفة تتمتع بعودة النمو الاقتصادي، بينما يعتمد القطاع على المساعدات الخارجية في المقام الأول بسبب أعداد اللاجئين الكبيرة هناك. ولذلك أصبح مكان الوظائف المؤقتة والبضائع المهربة، ولم يستطع حتى الآن إعادة بناء ما دمرته حرب إسرائيل الأخيرة، كما لم يستطع المحافظة على انجازات السلطة ما قبل عام 2006.
لكن عريقات يؤكد أن السلطة تبذل كل جهد ممكن في مجموعة من المحاور التي يجب أن نتحدث فيها بلسان عربي واحد، وتسعى إلى طرح آليات تنفيذ في إطار زمني واضح للوصول إلى تحقيق هدف الدولتين على حدود. ويضيف «نأمل من كل الأطراف- على رأسها الإدارة الأميركية والرباعية الدولية- أن يتمكنوا من إلزام إسرائيل، وهم يستطيعون، وقف النشاطات الاستيطانية بشكل تام بما فيها القدس، واستئناف مفاوضات الوضع النهائي من النقطة التي توقفت عندها عام 2008».
لكن ليست كل الفصائل الفلسطينية ترى في عودة المفاوضات مع الإسرائيليين الى مسارها «الحل السحري للمأزق الفلسطيني الداخلي والخارجي». فمجدلاوي (القيادي في الجبهة الشعبية) يصف 18 عاما من المفاوضات بـ «العقيمة والضارة، قبل الانقسام وبعده. وهي طريق كان محكوم عليها بالفشل من البداية، لأنها أبقت زمام المبادرة والتشرط في يد الإسرائيليين، الذين قادوا الأطراف الفلسطينية الى صراع على السلطة قاد الى هذا الانقسام الدموي، ووفر الغطاء للاستمرار في سياسة الاستيطان». ويضيف مجدلاوي «كجبهة شعبية نقول إنه آن الأوان لادراك أن الحركتين (فتح وحماس) لا تستطيعان الخروج لا من المأزق الوطني ولا من مأزقهما الخاص. ونقول بوضوح خاص انه آن الأوان أن البديل الوحدوي التقدمي الديموقراطي هو بديل الحركتين معا. وليس بديلا استقصائيا على غرار حماس وليس بديلا للهيمنة والتفرد بالقرار (سواء في السلطة أو في منظمة التحرير) على غرار فتح. ولكنه بديل وحدوي ينطلق من احترام خيار الشعب ومن مكاشفة الجماهير ومصارحتها بالحقيقة. والخطوة الأولى لذلك هي ما ندعو إليه من مراجعات شاملة للسياسات الفلسطينية على امتداد العقدين الماضيين على اقل تقدير. وهذا لا يعني القفز عن استحقاق المصالحة الوطنية واستمرار السعي لها. وهنا أذكر أن حماس رفضت الانخراط في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى- أي أن نزعة التفرد كانت ظاهرة لديها قبل أن تحصل على الأغلبية في انتخابات 2006».
حان وقت العمل الجريء
كل هذه الحقائق يجب ألا تكون مبررا للعقاب الشديد الذي يلحق بأبناء غزة كل يوم، ويجعلهم يرزحون تحت وطأة وهن وتفسخ اقتصاديين شديدين، وهم المعتقلون داخل أكبر سجن في العالم منذ 3 سنوات متواصلة. فكما أنه من غير المفيد تعليق كل المآسي والويلات والكوارث التي تطال الشعب الفلسطيني منذ عقود على «الشماعة» الإسرائيلية، فكذلك لا يجوز تجاهل ما يحدث في غزة والقبول بإبقاء الوضع على ما هو عليه هناك.
فقد وصف تقرير الأمم المتحدة، الذي وضعه القاضي ريتشارد غولدستون، عملية «الرصاص المصبوب» بأنها ترقى الى «جرائم الحرب». وقال إن حجج إسرائيل لم تكن مقنعة. وان ردها على ما تقول إنه هجمات صاروخية تنفذها جماعة حماس «لم يكن متكافئا ولم تتخذ خطوات كافية وفعالة لتفادي سقوط عدد كبير من المدنيين». كما أن شهودا فلسطينيين وجنودا إسرائيليين قالوا إن الجيش الإسرائيلي استخدم مدنيين فلسطينيين «دروعا بشرية» خلال العملية بإجبارهم على تفتيش منازل المسلحين تحت تهديد السلاح أحيانا. وتوصل التقرير إلى أن إسرائيل استخدمت قذائف الفوسفور الأبيض (المحرم دوليا) في أماكن مكتظة بالسكان، واعتقلت عددا كبيرا من الفلسطينيين لاستجوابهم واحتجزتهم في ظروف قاسية. لقد حان وقت العمل الجريء، وتضافر جميع الجهود الدولية والإقليمية وأيضا الفلسطينية (تسريع المصالحة) من أجل إطلاق عملية إعادة إعمار القطاع، التي يجعل الحصار منها ضربا من المستحيل. ويجب الإسراع في مساعدة الأهالي هناك، حيث الواقع عبارة عن «كارثة إنسانية حقيقية».
كما يجب على «الأطراف المتنازعة في المنطقة الالتزام بالقانون الدولي»، كما يقول الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في مقال نشرته صحيفة الغارديان.
يرى كارتر أن الخطوة المقبلة تتمثل في أن تدعم «الرباعية» خيار حل الدولتين والتجميد الكامل للاستيطان كأساس للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، «وذلك برفض استخدام حق النقض ضد إصدار مجلس الأمن قرارات تندد بهذه المستوطنات، فهذا قد يقيد حركة إسرائيل، كما قد يأتي بالفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات».
في الوقت نفسه يرى كارتر أن على «الرباعية» -ودونما توجيه اللوم لأي طرف- البدء في إعادة إعمار غزة بتنظيم جهود الإغاثة بإشراف مبعوث خاص يراقب وقف إطلاق النار ويتوسط في فتح المعابر، «فصرخات المشردين والمرتجفين من البرد تتطلب المساعدة الفورية».
http://www.alqabas.com.kw/Article.aspx?id=560377&date=23122009