الإنسانية… كتطور استثنائي في التاريخ البشري
6 يناير 2010 - جريدة الوطنالإنسانية… كتطور استثنائي في التاريخ البشري
المصدر: جريدة الوطن الأربعاء 20 محرم 1431 ـ 6 يناير 2010 العدد 3386 ـ السنة العاشرة
عبدالله المطيري
قبل ثلاث سنوات كنا في صالون الأستاذ ناصر القحطاني الثقافي للحديث حول مفهوم الحوار اليوم وكان الحضور في غاية التنوع إلا من الحضور النسائي. كانت أغلب أطياف الفكر السعودي ممثلة في الجلسة بل إن ضيوفا من الخارج شاركوا في الحوار كان أحدهم الدكتور محمد الهاشمي رئيس قناة المستقلة. كان أغلب الحديث يدور حول أن مفهوم الحوار مفهوم موجود في التراث البشري والإسلامي تحديدا وما علينا سوى استعادته وممارسته من جديد. من جهتي كنت أختلف مع كل هذا فمفهوم الحوار اليوم لا مثيل له في التاريخ ويأتي استجابة لوضع استثنائي في حياة البشر. فالحوار اليوم نتيجة لاجتماع عدد كبير من البشر المختلفين والمتنوعين وسط فضاء يعاملهم بالمساواة ويحترم حرياتهم ولا يسمح لطرف بالطغيان على طرف آخر. في السابق كانت سلطة إدارة الحوار محتكرة لصالح طرف من الأطراف وهو الذي يتحكم في مساحة الحوار التي يمنحها للآخرين ويسلبها منهم في وقت آخر.
ينطبق هذا الوصف على التاريخ البشري المعروف امتدادا للعصور الوسطى واستمرارا في المناطق التي لم تتحقق فيها الديموقراطية حتى الآن. التغيير حدث في المناطق التي تطورت فيها مفاهيم الإنسانية: الحرية والمساواة وتحولت إلى أنظمة حكم وقوانين تجعل من الحوار بين أطياف المجتمع أمرا يستند على المساواة بينهم وفي إطار الحرية المحفوظة بالقانون وفي أمان من أي طغيان فرد على آخر. الحوار الآن أصبح طريقة التشريع والتفكير، الطريقة التي يقرر من خلالها مستقبل الوطن والمواطنين. لم يعد الحوار لحظة تفرضها ظروف سياسية معينة ووسيلة للتنفيس والترضية تخضع لإرادة خاصة قد تذهب مع ذهاب هذه الإرادة.
الحوار الحقيقي هو الحوار الذي تحقق بعد القضاء على فكرة الحقيقة المطلقة المحتكرة والوثوقية في التفكير. مع أوروبا الحديثة وامتدادها الأمريكي أصبحت الحقائق تصنع كل يوم وتتغير وتتطور ولم تعد ثابتة مستقرة مع العصور. فقط العدالة والمساواة والحرية هي المبادئ الثابتة وهي كما هو واضح مبادئ غير فئوية وغير خاصة ولا ينتج عنها أي احتكار أو تمييز. هنا تطور نوعي في مفهوم الحوار لابد من أخذه بالاعتبار عند التفكير في حال الحوار في الثقافة العربية لأننا بسرعة وبسهولة قد نتورط في دعاية للماضي على حساب الحاضر الذي نسعى لتغييره. من نافل القول هنا أن هذه المداخلة تعرضت لهجوم عنيف خصوصا من رئيس قناة “المستقلة: الحوار من أجل الحقيقة” والذي اتهم عددا من الشبّان العرب بالانسلاخ من تاريخهم وثقافتهم. شخصيا لم يمثل هذا النفي تصرفا شاذا بقدر ما هو تعبير عن ممارسة الحوار بالمفهوم التقليدي حيث يتحاور معك الطرف الآخر راغبا في دعوتك أو هدايتك كاستراتيجية نفعية وحين يشعر باستحالة هذا الأمر فالتهديد والوعيد هو ما ينتظرك، وربما عدت في المستقبل إلى أمثلة شخصية على هذا الأمر.
يوم الأحد الماضي كتب الأستاذ شايع الوقيان في مقالته الأسبوعية في صحيفة عكاظ مقالة بعنوان التاريخ: ما هو “أبيض” وما هو “أسود”، أشار فيها إلى كثير من الدعاوى التاريخية التي يتداولها الناس بل والمؤرخون بدون تمحيص أو بتعمية طامسين معهم وجهها القبيح. ضرب الوقيان مثال الرحّالة والمستكشفين الذين يُقدّمون عادة باعتبارهم نجوما فاتحة وننسى أهدافا كثيرة “سوداء” كانوا يسعون لتحقيقها. أشار الوقيان إلى حداثة مفهوم الإنسانية وهو مصيب في ذلك تماما. فالإنسانية التي تعترف بالحرية والمساواة لم تتحقق برأيي إلا ابتداء من الثورة الأمريكية والفرنسية التي أسست لدول ديموقراطية تؤمن بالمساواة والحرية من هذه اللحظة بدأ يتحقق مفهوم الإنسانية بشكل متدرج وبصعوبات أحيانا. ولذا نجد اليوم أن الأمريكيين يدرّسون أبناءهم أن قتل الهنود الحمر من قبل المستعمرين (الذين قدموا في عصر الملكيات والكنيسة في أوروبا) هو جريمة يجب الخجل منها باستمرار. كما نلاحظ أن هذه الثقافة هي ما جعلت أمرا استثنائيا يحدث في التاريخ وهو أن يخرج المواطنون اعتراضا على حرب تشنّها دولتهم. لا يعني هذا أن فكرة الإنسانية مكتملة على أرض الواقع، هذا حلم لا يزال بعيد المنال برأيي خصوصا في السياسة الدولية، ولكنه يعني أن هذه الثقافة متأسسة بشكل حقيقي وهي التي يعوّل عليها في مواجهة العنف والعدوان البشري.
فكرة الإنسانية الجديدة التي ترفض التفريق بين الناس لأي اعتبار وتعتقد أن المساواة والحرية هي الوضع الطبيعي الذي يجب أن يعيش فيه الناس تعتبر منعطفا حقيقيا في التاريخ البشري، إنها طريق جديدة يمكن أن يفتح آفاقا واسعة للبشرية عامة، هذه الفكرة هي التي تقاوم الفقر والجوع في العالم وتقاوم الحروب خصوصا تلك التي تشنها الدول الكبرى، هي التي تقاوم ضعف الديموقراطية والعدالة والحرية في كثير من دول العالم، هذه الفكرة هي التي تحرك جمعيات حقوق الإنسان ومنظمات العدل العالمية وتحرك الكثير من الفعاليات التي تحاول أن تنتشل الكثير من مآسي الإنسانية وتصحح مسارها.
واستمرارا مع الوقيان فإن هذا المفهوم الحديث للإنسانية والحوار والحرية والمساواة لا يعني نبذا للعصور السابقة بقدر ما هو وعي بالتغيير الجذري الذي حدث. القدماء كانوا يعيشون وفق نظام الفكر السائد في وقتهم ووفق طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية الموجودة في وقتهم. المشكلة تكمن في تحميلهم ما لا يحتملون ومحاولة إعادتهم للفعل في ظروف تختلف بشكل كبير عما هم عليه. انشغال الفاعلين الاجتماعيين بالماضي أكثر من الحاضر هو تخل منهم عن مسؤوليتهم تجاه الحياة التي يعيشونها استجابة لأغراض أيديولوجية نعرف اليوم القدر دمارها الكبير على الإنسانية بشكل كبير. للفكر تاريخيته كما لكل شيء آخر في الحياة ومحاولة إيقاف الفكر عن التغيير والتحول والحركة هو إخراج له عن سياق الطبيعة وبالتالي فهو تحويل له من فعالية بشرية للتفكير والتطور إلى عقبة في وجه هذا كله. فهل فكرنا السائد اليوم وسيلة للحياة أم عقبة في وجه هذه الحياة؟
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=3386&id=16883