زواج القاصرات وعلاقات القوة
13 فبراير 2010 - جريدة اليومزواج القاصرات وعلاقات القوة
د. عبد السلام الوايل
تشتعل بين فينة وأخرى مسألة زواج القاصرات. وما يحيل الموضوع إلى قضية ليس زواج القاصر بذاته بل عمر زوجها والطريقة التي زُوجت بها الطفلة، إذ إن زواج فتاة قاصر (أقل من 18, أو أقل من 15, الأمر يختلف حسب المرجعية التي يُتكأ عليها في وضع حد بين الرشد والطفولة) في حد ذاته ليس قضية. القضية تحدث حين يتُزوج الطفلة رجل يكبرها بعقود بسبب طمع أبيها أو ظلم ولي طفلة يتيمة. والقضية ـ بهذه الكيفية ـ تتحول الى حدث يستحق التعليق ويستقطب الإثارة والتعاطف. ليس هذا الأمر جديدا, لأزواج القاصرات من رجال في أعمار أجدادهن ولا التعاطف المجتمعي مع حالاتهن. فلقد كنت أسمع هذه القصص في سياق مؤثر يفطر القلوب منذ كنت طفلا. ولقد جُسد بعض تلك الحالات في قصائد تحولت إلى أغان شعبية مؤثرة كنا نرددها ونحن أطفال صغار بلوعة وألم, كأغنية «آه وأويلاه من عم ظلوم» التي أعاد إحياءها المنشد عمر المنسلح مؤخرا وأغنية «شايب عفعف القمل في لحيته», وليعذرني القراء. فلقد نسيت المطربين اللذين غنيا هاتين الأغنيتين.
الجديد في الأمر هو طريقة التناول ونوعية الرد على تلك الوقائع. فلقد تحول التناول من الشفاهي بين الأفراد والمجموعات إلى المكتوب عبر وسائل الاتصال الجماهيرية, كالصحف والمنتديات. أما نوعية الرد فلا شئ يعبر عنها مثل الطريقة التي رد بها المحامي سلطان بن زاحم, المكلف من قبل هيئة حقوق الإنسان بمتابعة قضية طفلة بريدة, على خبر تنازل أم الطفلة عن القضية المرفوعة أمام محكمة بريدة لإبطال هذا الزواج.
فالمحامي علّق على تنازل الأم عن القضية بقوله : «إن تنازل الأم عن مواصلة دعواها بفسخ نكاح ابنتها القاصر يعتبر أمراً خاصاً بها ولا يعني توجه الهيئة للسكوت لصحة هذا الزواج». إن الأمر لم يعد قضية خاصة بأسرة الطفلة. إنها قضية مجتمع. وإن أساء والدا الطفلة إلى مصلحتها وآدميتها فإن المجتمع لن يدع طفلا قاصرا بلا حماية. تطور رائع ومستحق بدونه لا يمكننا الزعم بأنه يمكن لنا أن نكون جزءا من العالم المتحضر، لكن كيف يمكن لهذه الظاهرة التي يسهل حشد الإدانة الأخلاقية لها أن تحدث باستمرار؟ وبتعبير آخر: ما الآليات التي تُمكّن هذه الوقائع من أن تحدث مرة بعد أخرى؟
يمكن الحديث عن العديد من الأسباب, كالطمع الشخصي لولي الطفلة وأسرتها وغياب التشريعات والقوانين التي تمنع هذه الوقائع، لكن ماذا عن الآليات, وعن الطرق الثقافية التي تُمكن هذه الظاهرة البغيضة من إعادة إنتاج نفسها باستمرار؟
سأقترح ثقافة التسلط كإحدى أهم آليات تمكين هذه الظاهرة من الحدوث مرة بعد أخرى. أقصد بثقافة التسلط جملة من تحبيذات قيمية سائدة في المجتمع تضع علاقات القوة والسلطة فوق متطلبات العقل والحكمة. يُصبح قلب الفرد الناتج عن هذه الثقافة وهواه مُعلقين بعلاقات القوة, علاقة المسيطر والمُسيطر عليه.
الكل داخل في هذا النظام الرأسي لتوزيع القوة. وبناء على ذلك, يكافح الفرد لإيجاد مكانة تهبه قدرا أكبر من القوة على الآخرين. في هذا الترتيب الثقافي, تؤخذ الأفئدة إعجابا بالشخص القادر على «الوطء بقدمه على رقاب الآخرين», تفسح له الأماكن في المجالس وينتزع الإعجاب والهيبة والاحترام والتبجيل من المحيطين. وبناء عليه, يصبح أفراد المجتمع داخلين في علاقات شديدة القوة والقهر لا يتوانى فيها الفرد عن انتهاز الفرص لفرض قوته على من سواه. إنه وضع يراكم الفرد احترامه ومكانته من قدرته على فرض «كلمته» على غيره. يصح هذا الوضع على علاقات النساء والرجال والموظفين صغارهم وكبارهم وسواهم. وتُجسد علاقات الأزواج في مجتمعنا وعلاقتنا بمخدومينا من السائقين والشغالات أمثلة ساطعة لثقافة التسلط السائدة… فما علاقة ذلك كله بزواج القاصرات؟
تتجسد في ظاهرة زواج القاصرات كل معاني التسلط. إنها بنية مُركبة من التسلط, ظلمات بعضها فوق بعض.
فالأب الذي يزوج قاصرا لكهل إنما يدخل في علاقات قوة يكون فيها أضعف من زوج ابنته, بسبب فقر أو نقص جاه أو خلافه.
لن يزوج أب ابنته لرجل في سنه أو في سن أبيه إن لم يكن لدى طالب الزواج أدوات القوة التي يليّن بها رأس الأب.
يستخدم طالب الزواج مصادر قوته لانتزاع موافقة الأب الأضعف. أما الأب الذي حركه فقر أو دين أو مجرد طمع لدفع ابنته الطفلة إلى أحضان كهل شبق فهو يُمارس سلطته على أنثى صغيرة السن. أي كائن في منتهى الضعف واللا إرادة,. يفعل الأب ذلك معتقدا أنه يمارس حقه الطبيعي, سلطته في تقرير مصير أفراد آخرين.
إنه يُبرهن على قوته وجبروته عبر كائن أضعف منه، غير آبه بالأنين الخافت, أو المدوي, لأنثى لا يستحق ألمها أن يوقف هذا الشغف الوحشي بحيازة صفة القوة.
المصدر: جريدة اليوم الثلاثاء9 فبراير 2010
http://www.alyaum.com/issue/article.php?IN=13388&I=736195&G=1