الوطن المفقود
20 فبراير 2010 - محرر الموقع
وقال وكيل الوزارة لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد الدكتور توفيق بن عبدالعزيز السديري: إن البرنامج، الذي ينتظر أن يشارك فيه حوالي (300) من الأئمة والخطباء والدعاة ومنسوبي المساجد في المنطقة الشرقية، يستهدف تأصيل فقه الانتماء والمواطنة من الناحية الشرعية، وغرس حب الوطن والانتماء إليه وتأصيل ذلك شرعاً، وتفعيل دور الأئمة والدعاة للقيام بواجباتهم في بيان أهمية الانتماء والمواطنة لبلادهم التي تضم قبلة المسلمين ومسجد رسوله الكريم، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وخيرها عمّ على المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها.
——————————————————————————-
مضاوي الرشيد
اكتشفت وزارة الشؤون الاسلامية السعودية اخيراً ان المواطنة مفقودة والانتماء الى الوطن ضعيف فرتبت دورة تأهيل لدعاتها وائمتها من أجل تأصيل ما سمي بفقه الانتماء ودعت 300 من هؤلاء لاجتماع يستمعون فيه الى حلقات وعظ ومحاضرات تأصيلية علهم بعد ذلك ينشرون هذا الفقه من منابرهم وبين طلابهم. وسيستمع الحاضرون الى طيف كبير من المحاضرين بينهم شخصيات معروفة في هيئة كبار العلماء وغيرهم.
اشكالية المواطنة في السعودية تتعدى دورات التأهيل وأزمتها لا تحل بمحاضرات نظرية وخطابات الوعظ والارشاد. فالمجتمعات التي لا تشكو من أزمة مواطنة هي تلك التي تطورت تاريخياً بمنظومة ربطت الشخص بكيان الدولة من خلال اكتسابه لحقوق غير قابلة للجدل او المقايضة أدت الى اتصال مع كيان مركب يسمى الوطن حيث يجد فيه الانسان الهوية والامان، وكلاهما ينبثقان عن عملية تراكمية وليس وعظية او ارشادية يلقن فيها ابجديات حب الوطن والانتماء اليه.
المشكلة في السعودية لا تنبثق من غياب فقه المواطنة بل من مسيرة تاريخية ربطت الوطن وحبه بأسرة حاكمة فتحول حب الوطن الى منظومة ولاء مطلق لهذه الاسرة مقابل بعض الانتفاع مما تجود به من خدمات.
في هذه المعادلة التي لا تزال قائمة حتى هذه اللحظة غاب مفهوم الوطن وفقدت معالمه الكبيرة امام عملية حصره في منظومة الولاء الضيقة. ورغم محاولات سابقة لتفعيل مفهوم المواطنة من خلال احتفالات تراثية ومسابقات رياضية ونشاطات اعلامية واعياد وطنية نجد أن المواطنة لا تزال مبهمة مما يدفع وزارة الشؤون الاسلامية لتنظيم دورات خاصة هدفها تأهيل الوعاظ بفقهها.
ومن الغريب ان الوعاظ الحاليين كانوا في السابق ينفون المواطنة من قاموسهم الفقهي بل أن منهم من يساوي الوطن بالوثن ولكن التغيرات الحالية والازمات الامنية التي تعرضت لها السعودية خلال العقدين السابقين لفتت انتباه البعض الى نقص المواطنة والانتماء الى كيان حديث مما جعل دورة التأهيل ضرورة ملحة في هذه اللحظة التاريخية.
ولكن ليس بالوعظ تتحقق المواطنة اذ ان لها شروطا وبيئة تنمو فيها بشكل تلقائي وعفوي. وهي ليست بحاجة الى دورات أو مسابقات رياضية أو فريق كرة قدم. ما هي شروطها اذن وكيف تصبح من المسلمات التي لا تحتاج الى جهد أو مؤتمرات.
الشرط الأول ينبثق من عملية فصل بين الوطن والاسرة الحاكمة اذ ان الأول هو ركيزة ثابتة والثاني عملية تاريخية طارئة
والشرط الثاني للمواطنة هو الفصل بين الولاء للوطن والولاء لمن يحكم الوطن اذ لا يمكن أن يكون الولاء والانتماء للوطن محصوراً في شخصيات معينة. يقدم لها المواطن ولاءه كرمز لولائه للوطن.
بعد هذين الشرطين هناك سلسلة من الشروط التي تعزز المواطنة منها توفر فرص النجاح الاقتصادي والامن الشخصي والصحي والتعليمي التي يحصل عليها المواطن كحتمية غير قابلة للجدل أو التوزيع حسب الاهواء والولاءات. وطالما ظلت هذه الخدمات مرتبطة بمفهوم الاتاوة التي تجبى من فوق لظل مفهوم المواطنة ضعيفاً وهشاً. لن تستطيع المحاضرات ودورات التأهيل ان تثبته في نفوس المواطنين.
يتبلور ضعف هذا الشعور في سلوكيات المجتمع وخاصة الشباب منه الذي ينتهز الفرصة للتعدي على الوطن في مفهومه المادي والمرئي رغم انه قد ينخرط في احتفالات ما يسمى بالوطن ويهتف باسمه في المجالات الرياضية والتراثية. كذلك يتطور هذا الضعف في الانتماء الى الوطن عند المجموعات التي لا تزال تتعلق بانتماءات ضيقة كالقبيلة والمنطقة والطائفة. فتجد في هذه الاطارات الصغيرة ما يعوضها عن غياب الحاضن الكبير الذي لم يستوعبها ويستجيب لحقوقها ومطالبها. وقد يلجأ البعض الى استراتيجية اخرى وهي نفي الوطن من مصطلحاته والاستعاضة عنها بحاضنات أكبر واكثر شمولية كالأمة العربية او الاسلامية. وقد برزت في السعودية خلال العقود السابقة كل هذه السلوكيات والتي تعتبر ردة فعل على غياب المواطنة كمفهوم وممارسة تحاول الجهات الرسمية استدراكه عن طريق الوعظ والارشاد فقط دون الانتباه الى المعضلة الحقيقية التي تقف وراء ضعف المواطنة والانتماء.
تبقى محاضرات المواطنة وخطب الانتماء قاصرة على احداث نقلة جذرية في الوعي الجماعي اذا لم ترتبط بتحديد دقيق لحقوق المواطن وواجباته في حدود الوطن. هذا التحديد يبقى ايضاً نظرياً ان لم تضمنه المؤسسات الحقوقية المستقلة والتي تكون رقيباً على تلك الممارسات. فالتربية المدنية كفيلة بتعريف مجموعة الحقوق والواجبات ولكن ليس الضامن لها، اذ تبقى الضمانة الحقيقية مرتبطة بالقضاء وممارساته التي تقف وقفة حيادية في تفعيل هذه الحقوق بل هي من يحول هذه الحقوق الى قرارات ملموسة في حالة الجهل بها او تجاهلها. عندها فقط تصبح المواطنة ممارسة ملموسة وقضية غير عالقة او مأزومة تحتاج الى تدريب وتأهيل وخطب ويتحول المواطن من شخصية مشكوك في ولائها الى عنصر فعّال في بناء الوطن من منظومة تقتصر على حبه والحفاظ على ثرواته وخيراته.
عندما ترتبط المواطنة بسلسلة الحقوق والواجبات التي يحفظها القضاء المستقل كما في بعض الدول نجد المواطن فيها لا يحتاج الى تنظير في المواطنة او دروس في الانتماء بل هو يعتبر المواطنة امراً تلقائياً فنجده يحترم المساحات العامة ولا يعتدي عليها ويحرص على نظافة بيئته. وعندما يدخل مؤسسات دولته سيجد الاحترام والتقدير والتعامل الحضاري لا الزبونية والشللية التي تعطل تصريف معاملاته وتشكك في ولائه لوطنه. وهو مؤمن بأن وطنه له وهو لوطنه. لن نصل الى هذا النوع من الوطنية والانتماء الا من خلال تفعيل مفهوم جديد للمواطنة لا يربطها بالولاء للشخصيات. هذا الولاء هو من يعطل التطور الطبيعي للمواطنة في الدول الحديثة النشوء كالدولة السعودية والتي لا تزال تبحث عن صيغة المواطنة في صدى الوعظ والمحاضرات وليس في تغيير الممارسات السابقة التي نفت الوطن واستبدلته بمصطلحات الولاء والتبجيل لمجموعة تحكم مجموعات بشرية متباينة ومتعددة الانتماءات.
وفقط عندما تعرضت السعودية لمخاطر امنية خلال الاعوام السابقة نجد ان الاهتمام قد انصب على ذلك المصطلح المبهم المسمى بالوطن وحبه بعد غياب طويل مهد لظهور اطروحات تتعارض مع الوطن بل تهدد امنه وسلامة مواطنيه.
الوطن ليس بالقضية ‘الرومنسية’ او بالمنظومة الشعرية او حقل نفط يوزع حسب الاهواء والمزاج بل هو سلسلة من الحقوق والواجبات المضمونة قضائياً قد يتغنى به الشعراء وتكتب فيه القصائد لكنه يظل مبهماً طالما انه لم يرتبط بسيادة القانون وينفصل عن الولاءات الشخصية والزبونية المتفشية في بلد كالسعودية. عندما تتحقق المواطنة في مفهومها القانوني لن نحتاج بعدها الى عملية تأهيل تزرع في قلوبنا حب كائن خيالي ننسجه في مخيلتنا ونعبر عنه بأسلوب انشائي ركيك لا يصح حتى في موسوعات الأدب والشعر ونتغنى بصوره التي تغيب عنها صور الواقع ونستبدلها بأبراج من الاسمنت والحديد.
المواطنة الحقيقية هي ممارسة قبل ان تكون نظرية او معادلة وهمية تحتاج الى تأصيل شرعي او غير شرعي. لا تنجح هذه الممارسة الا اذا اقترنت بوعي شامل مفاده ان للانسان حقوقا على ارضه وواجبات تجاه مجتمعه عندها فقط نكون بصدد التحول من الولاء للشخصيات الى الولاء للوطن.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية