هل من منقذ للمجتمع من فوضى العمالة السائبة؟
5 مارس 2010 - جريدة الجزيرةهل من منقذ للمجتمع من فوضى العمالة السائبة؟
د. عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ
لعل لدى وزارة العمل، أو وزارة الداخلية، ممثلة في أجهزة الأمن فيها وغيرها من الأجهزة والإدارات المتعددة، لعل لدى هؤلاء أو بعضهم أرقاما عن حجم العمالة السائبة، تلكم العمالة التي تسبح في بحر لجي هنا وهناك في مدن المملكة وقراها. أعرف أن هذا الوضع
فيه من الحساسيات والمشكلات والمصاعب الشيء الكثير. تستقدم العمالة عن طريق كفيل ثم تترك، أو «تسيب» كما نقولها بالعامية، لتصبح سائبة، تبحث عن عمل. قد أحتاج أنا وأنت إلى عامل أو عاملة، أو سائق، فيقال لنا هنالك مكتب يستطيع مساعدتك، ويتصل بذلك المكتب ويرسل لك ما طلبت وأول شيء تدفع أتعابه التي قد تصل إلى مئات من الريالات مضافا إليها أجرة السيارة التي جاءت بالعامل المنشود للمقر الذي سوف يعمل فيه، وتعطى ورقة منسوخا فيها إقامته ورخصة قيادته، إن كان سائقا، وبعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين لا يعجبه الوضع فيغادر مقر العمل ويعود مرة أخرى يبحث له ذلك المكتب عن صاحب عمل آخر وثالث، وهكذا. هذا العامل يدفع للمكتب «الوسيط» مبلغا من المال ويدفع للكفيل كذلك مبلغا من المال عند عمل أي إجراء.
وهكذا فالعمالة وكذلك المواطن واقعين في «فخ، بل مصيدة» تكونت نتيجة لعوامل متعددة تشمل ثقافة المجتمع، بيروقراطية الإجراءات، غياب الأنظمة الصارمة المنظمة. فيكون من نتاج كل ذلك بيئة مناسبة يفرخ فيها العديد من المشكلات، التي منها: ما يتعلق بالأمن وبحقوق الإنسان وبمصداقية المجتمع وتطوره، ولربما نتج عن ذلك معضلات تتفاقم في مجتمع يطمح إلى التطور ويعتبر مثالا يحتذى، إذ كيف بمجتمع لديه من القيم والثوابت والمسؤولية وتكون فيه تلكم الظاهرة ولا يتعامل معها بشكل إيجابي.
لنعد إلى الكفيل الذي استقدم العامل بطريقة نظامية، ثم تركه سائبا يبحث عن عمل، ثم ذلك المكتب «الوسيط» هل هو نظامي بدءاً؟ الكفيل «المسيب»، أي الذي ترك مكفوله سائبا، قد لا يكون لديه مكفول واحد بل مئات، فلك أن تتصور تضاعف المشكلة وتفاقمها. سبق أن طرحت حلولاً تتمثل في إنشاء مؤسسات تستقدم عمالة من أنواع مختلفة ثم تقدم خدماتها إلى من يريدها، كأن تعمل العاملة المنزلية لساعات في الأسبوع بأسعار مقننة، ولكن قد يعترض على ذلك بحجة ما يترتب على إعاشة وتسكين العاملات، وتلكم مشكلة أخرى. هنالك متخلفون في عدد من مدن المملكة لأسباب ترتبط بالحج والعمرة ومرت السنون عليهم واستوطنوا في أحياء معروفة في مكة المكرمة ومنهم من استوطن في أحياء في مدينتي الرياض وجدة. ولهؤلاء خصائص ديموغرافية واجتماعية واقتصادية، منها: ارتفاع في حجم الأسرة، تعدد في الزوجات، تدن في المستوى التعليمي، بطالة صرفة وأخرى مقنعة.
فماذا عسى أن نتوقع من تجمع بشري بمثل هذه الخصائص الاجتماعية والاقتصادية يتركز في أحياء سكنية من مدننا، مكتظة بمثل هؤلاء السكان؟، وماذا عسى أن يكون وضع أمثال هذه المناطق السكنية؟ لقد كتبت لمسؤولين عن هذه المشكلة واقترحت عليهم العمل على دراستها، دراسة علمية منهجية للوصول إلى حلول عملية، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد. أما ما نسميه في لغتنا الدارجة ب «التطنيش» فلن يخدم المصلحة محليا أو إقليميا، إن لم يكن دوليا: نعم إن سمعة بلدنا على المحك، وقد يقول قائل إنني مبالغ في هذا الشأن، فأقول أكثر من ذلك: إن المشكلة من وجهة نظري تمثل قنبلة موقوتة، أنتركها إلى أن تفرض حلا علينا، أم نعمل على دراستها ونحاول إيجاد الحلول لها؟ كفى! لقد تركنا مشكلات حتى تفاقمت ثم كان نتيجة لذلك إيجاد حلول عاجلة وغير مدروسة نتج عنها مشكلات من نوع آخر.
قارئي الكريم، لا تأخذ الانطباع، هذه المرة، بأنني منفعل، ولكن افترض أنني متفاعل مع هذه الإشكاليات التي نراها ونتعايش معها يوما بعد آخر وسنة بعد أخرى. لدينا جامعات ومراكز بحث علمي هلم للاستفادة منها. نعلم أن الجامعات تتسابق في السنوات الأخيرة على إنشاء الكراسي البحثية في مجالات شتى، آن الأوان أن تُنشئ جامعة من الجامعات الكبيرة في وطننا كرسيا بحثيا عن العمل والعمالة. نريد معرفة حجم البطالة بأنواعها والعمالة الوطنية منها والأجنبية والمشكلات المرتبطة بجميع هذه الأمور ثم الحلول. وقبل ذلك نريد وضع الخطط والاستراتيجيات للقوى العاملة في وطن له حضور إقليمي ودولي. ألسنا نشارك في «مجموعة العشرين دولة» والمتكونة من وزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية لعشرين دولة متصدرة العالم اقتصاديا «G-20»؟ فها نحن نشترك في محافل دولية وليس لدينا حلولٌ محلية، كيف يكون ذلك؟
ومثل العمالة السائبة هنالك العمالة الهاربة، والتي في تصوري أنها من نوعين: عمالة تجنح للهروب بسبب بيئة العمل الداخلية وأخرى تهرب بسبب أمور خارج بيئة العمل، هنالك من يغري العاملة والعامل بالعرض عليه أو عليها أجورا ومغريات أكثر، فنجد عمالة تهرب وتؤويها مساكن ومؤسسات بطريقة غير نظامية، ثم تبدأ عملية مطاردة أشبه بمطاردة توم وجيري.
تقول الزميلة سمر المقرن في مقالة لها في صحيفة الجزيرة (الأربعاء 5 صفر، 1431هـ): «أعتقد أن قضية العمالة صارت من القضايا شبه اليومية في مجتمعنا؛ إذ إن هناك – وللأسف – من العمالة القادمة إلى بلادنا من هم من خريجي السجون وأصحاب السوابق أو من غير الأسوياء نفسياً وسلوكياً، وهذا يفرض سؤالاً عن المتسبب في كل هذا. أعتقد أن الإجابة ليست فيها خيارات؛ فهي إجابة واحدة، ألا وهي مكاتب الاستقدام التي همُها جمع المال بطريقة مَن يدفع أكثر يذهب إلى العمل»
الأمر إذن ذو شجون، يسهم فيه القطاعان العام والخاص إضافة إلى المجتمع نفسه الذي يحتاج إلى العمالة، وهذه الحاجة مشروعة وموجودة في مجتمعات أخرى، ولكن ينقص المجتمع مسألة «الضبط والربط» والتي لو طبقناها في نواحي حياتنا لحسنت أحوالنا حضاريا وثقافيا واقتصاديا و لأصبحنا على مستوى المسؤولية المتمثلة في أمانة وضعها الخالق عز وجل في أعناقنا، تتمثل تحديدا في تحويل الأرض التي نقطنها إلى موطن بشري وإنساني، أليست هذه الأمانة المعلقة في أعناقنا، أفرادا ومجتمعات رعاة ورعية، تستحق بذل الجهد والتضحيات والعمل الدؤوب لتحسين الوضع الذي نحن بصدده؟