أزمة الهوية ومستقبل المواطنة
29 نوفمبر 2013 - أ . عالية فريدتعرف الهوية على أنها جسر يُعبِر من خلاله الفرد عن بيئته الاجتماعية والثقافية، وهي إحساس بالانتماء والتعلق بمجموعة معينة، والقدرة على إثبات الهوية يرتبط بالوضعية التي تحتلها الجماعة في المنظومة الاجتماعية وطبيعة نسق العلاقات فيها.
لا ريب في أن الهوية أصبحت من المسائل الرئيسية التي تواجه المجتمعات الإنسانية على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي وباتت تستخدم كأجندة لتحريك الصراعات في بعض المناطق أطلق عليها – تفجير أزمة الهوية – هذه الأزمة والتي من خلالها تنفي الرغبة لدى العصبيات والأقليات القبلية والطائفية والقومية في البحث عن الجذور وحماية الخصوصية المجتمعية.
فمنذ اندلاع ثورات الربيع العربي قبل ثلاثة أعوام تقريبا، أخذت مسألة الهوية تبرز على السطح كإحدى نقاط الصراع الملتهبة في المجتمعات العربية والإسلامية – ولم يستثنى منها مجتمعنا السعودي أيضا – والتي خلق الكثير من المشاكل والعقبات أمام عملية التحول الديمقراطي، فما نشهده من مخاضات تمر بها الأمة يحتم علينا النظر بجدية في حيثياتها الذاتية والموضوعية، بشكل يأخذها بعيدا عن محط الخلاف والصراع القائم كي نتفادى فشل أي حراك تغييري أو حتى ما يرمي إليه الربيع العربي على الأقل في إنتاج نظم ديمقراطية حقيقية متى ما أرادت ذلك.
لعل ما يلفت النظر في مسألة الهوية ليس فقط ما يتعلق بالأطر الأيديولوجية للقوى السياسية المتصارعة والمتنازعة وإنما ما يقومون به أيضا من توظيف سياسي لهذه المسألة بهدف تعبئة الأنصار والمؤيدين، وذلك على غرار ما يجري بالنسبة لبعض الأحزاب في مصر فمع مناقشة التعديلات الدستورية يندفع حزب النور لإعادة إشعال معركة الهوية مرة أخرى، فهذه المعركة الوهمية كانت واحدة من أسباب إجهاض المرحلة الانتقالية الأولى، وكانت سبباً فى إشغال المصريين عن القضايا الأكثر أهمية التي تتعلق ببناء النظام الديمقراطي الحقيقي للدولة، وقضايا العدالة الاجتماعية المنسية منذ ثورة 25 يناير حتى الآن، وحتى لا تتيه الثورة في التباسات إيديولوجية متتالية عبر الاختطاف والتعطيل، لابد للشعب المصري ونخبه الواعية أن يكون مدركا لهذه المرحلة الانتقالية.
و عليه فإن جزءا أساسيا من الصراع الآن على الساحة يدور حول هوية المجتمع المصري حيث يدعي كل طرف أنه يدافع عن هذه الهوية من الطرف الآخر، بل الأكثر إيلاما أن يتم استخدام مسألة الهوية لتبرير وإقصاء هذا الطرف أو ذاك من العملية السياسية.
متناسين دور الأزهر الشريف الذي يعد أهم ضمانات الشعب المصري وأنه ممثلا في لجنة الخمسين كمؤسسة عريقة مستقلة عن تدخلات السلطة، وموقفه تجاه الأحداث التاريخية وإنحيازه الدائم للشعب ومطالبه ووقوفه ضد الظلم والاستبداد، وأن هناك توافقاً عاماً بين المصريين على عدم الخلط بين الدين والسياسة، لكن مازال بعضهم متمسكا بعملية خلط الأوراق التي يجيدونها ويوظفونها حتى يعودوا بمصر مرة أخرى إلى عصور التخلف والرجعية.
والقضية هنا لا تتعلق بالخلاف حول مكونات الهوية وعناصرها وإنما بالأساس هو خلاف حول الدور الوظيفي للهوية في عملية التحول الديمقراطي، بمعنى أن تحويل الهوية من شعور بالذات ينبع من الانتماء التلقائي للأفراد إلى أيديولوجية يتم فرضها عليهم يمثل خطرا حقيقيا على إعادة بناء النظام السياسي في المراحل الانتقالية التي تعيشها في الوقت الحالي.
إن ما تواجهه المنطقة اليوم من حالة عنف سياسي وصراع طائفي ومذهبي واثني أدى إلى تبعات سلبية أفرزت سلوكيات غريبة للأسف على الكثير من مفاهيمنا وتقاليدنا وموروثاتنا الإنسانية والحضارية القائمة على مبادئ الاعتدال والتسامح والتعايش وقبول الآخر، فتقديم الأنا والمصالح الشخصية والمحسوبيات والتنافر والتباغض والتحاسد وإثارة الفتن والتحريض على الكراهية، ولمز الآخرين والمزايدة عليهم في وطنيتهم والتشدق بحب الوطن من خلال الأقوال والضجيج والصراخ بعيدا عن الأفعال الصادقة المبرهنة على ذلك، جلها سلوكيات تشكل تحديات وصعوبات يجب مواجهتها، وذلك يستدعي الجميع إلى تضافر الجهود والتعاون الكامل لتجاوز ماضي الواقع المتخلف والغلو والتطرف والسعي نحو التوافق على منظومة سلوك تآلفية جامعة هذا من جهة ومن جهة أخرى يتم تقليل قدرة أي طرف وأي تيار على استخدام ورقة الهوية كأداة في أي صراع سياسي.
وقد يكمن الحل الأمثل للتعاطي مع مسألة الهوية في إنتاج عملية سياسية تقوم بإدماج كافة القوى والتيارات بمختلف خلفياتها الأيدلوجية، ويجعلها قادرة على حل مشكلاتها المشتركة بالعمل على تأسيس نظام سياسى ديمقراطي يقوم على المواطنة والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، المواطنة الرشيدة لتي أساسها الانتماء الذي يؤكد على أن الوطنية هوية للدولة الحديثة والمواطن فيها هو رأس المال الحقيقي في النهوض بالعملية التنموية بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وبحيث يصبح التنافس بين هذه القوى تنافسا سياسيا برامجيا وليس تنافسا أيدلوجيا وهو ما يجعل مسألة الهوية مدخلا للصراع والخلاف وأحيانا الفرقة والتشرذم وذلك على حساب التوافق والتقارب بين مكونات المجتمع.
يقول احد الدعاة:
« من العجائب التي تضحك وتبكي وما أكثرها اليوم في بلداننا، أنه في بعض البلاد العربية يبدو التمسك بالمذهب الفقهي الرسمي، والمنصوص عليه في دساتير هذه البلدان، يبدو ذلك أمرا لازما لا يمكن الفكاك عنه، ومقدسا لا يمكن تجاوزه والخروج عليه ولو إلى مذهب فقهي «إسلامي» آخر، بل يعد تسلل اجتهاد فقهي منقول عن بعض الأئمة الأخيار، خروجا على ثقافة البلد وتراثه ومساسا بالهوية الدينية للبلد، وتنظم لذلك حلقات وندوات وبرامج تلفزيونية، مع أن كل المذاهب تأخذ من مشكاة واحدة هي مشكاة النبوة، ولكن عندما تمس عقيدة الأمة ودينها، وتستورد أفكار لا تمت إلى الإسلام الذي أخذت منه هذه المذاهب بصلة، وعندما تستعار قوانين بعيدة كل البعد ليس على المذهب فحسب، بل ربما عن روح الدين نفسه فإن ذلك يبدو أمرا طبيعيا بل ومرحبا به ».
أمام طوفان الهويات المتنازعة اليوم والذي يعج بها فضائنا الإنساني نتيجة تداعيات العولمة الثقافية والهجوم الممارس على هويتنا الإسلامية مباشرة ومانتج عنه من تطاول وتزييف وتضليل عبر مختلف الوسائل الإعلامية وثورة الاتصالات التقنية إننا مدعوون كنخب ومثقفين إلى إثراء هويتنا الوطنية بتعميق الوعي والثقة بذواتنا لنرسم صورة زاهية لمستقبل الأجيال
وعلى ذلك فإننا ندعو مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني إلى تعزيز مسيرة الحوار بين مختلف الأطياف والمشارب وأتباع المذاهب وحوار الأديان للأخذ بمبادرات سريعة للحفاظ على الهوية الإسلامية التاريخية وصون حق حرية العبادة انطلاقا من قاعدة إيمانية إسلامية، والتنافس نحو طرح العديد من المبادرات الوطنية التي تنبذ التحريض والكراهية وتدعوا إلى رص الصف والوحدة الوطنية والتشجيع عليها.
بالإضافة إلى تعظيم الجوامع المشتركة بين أتباع المذاهب والآراء المختلفة، وتفعيل حوار الأديان بكل مصداقية أملين أن يشكل المجتمع السعودي نموذجا متميزا في التعايش والتآخي والمحبة بين أفراده وجماعاته وبين كافة مناطقه ومدنه وقراه،
كما نؤمن باحترام حقوق الانسان فان حماية حقوق الأقليات واجبة وليست تفضلا ومنة، ويشهد التاريخ كم كان لبعض هذه الأقليات دورا كبيرا في بناء مجتمعاتها وخدمة أوطانها والدفاع عن قضاياه.
وخلاصة الأمر: إننا مدعوون جميعا إلى وفاق وطني نابع من فهم الإسلام وقيمه الحقيقية وللدفاع عنه لاسيما في هذه المرحلة التي يشوه فيها الدين بمسميات سياسية، ويتعرض فيها إلى الكثير من الظلم بسبب جهل البعض بجوهر الإسلام الذي يدعو للتسامح والاعتدال والبعد عن التطرف والانعزال
كما إننا مدعون للخروج من بوتقة أفكارنا الضيقة إلى رحاب الهوية الجامعة التي تنفتح على الآخر وتتعاون معه…