الساكنون خلف أسوار العمر
2 أكتوبر 2016 - جريدة الرياضفاضل العماني
مرّ يوم أمس خجولاً وباهتاً ودون أن يلتفت إليه أحد، تماماً ككل الأشياء والمناسبات والأحداث الإنسانية الجميلة التي لم تعد ضمن أولوياتنا واهتماماتنا. فقبل أن أشرع في كتابة هذا المقال، طفت بجولة سريعة ــ وليتني لم أفعل ــ حول العديد من وسائل إعلامنا بقنواته وصحفه ومنصاته وشبكاته ومواقعه العديدة، علّني أجد ثمة ذكر لهذه المناسبة العالمية المهمة التي يحتفل بها كل العالم، ولكنني ذُهلت ــ وهل يحق لي ذلك؟ ــ من حجم الغياب والإهمال الكبير لليوم العالمي للمسنين.
صادف يوم أمس “١ أكتوبر” الذكرى السنوية لليوم العالمي للمسنين “International Day of Older Persons”، وهي مبادرة رائعة أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام ١٩٩٠ ليكون اليوم الأول من شهر أكتوبر من كل عام مناسبة دولية للاحتفال بشريحة كبار السن، والذي يصل عددهم الآن حوالي ٧٠٠ مليون شخص، وهم في ازدياد مضطرد إذ سيصل عددهم بحلول عام ٢٠٥٠ إلى ملياري شخص، أي سيُشكلون أكثر من ٢٠٪ من سكان الأرض.
وتُعرّف الدول المتقدمة والمنظمات العالمية المرموقة كبار السن أو مرحلة الشيخوخة بأنها العمر الزمني ٦٠ عاماً وما فوق. وقد طرأ تغيير جذري على التركيبة السكانية خلال العقود الأخيرة، حيث ارتفع متوسط العمر العالمي من ٤٦ عاماً إلى ٦٨ عاماً، ويتوقع أن يرتفع هذا المعدل بنهاية هذا القرن إلى متوسطات أعلى، وذلك بفضل التقدم العلمي والطبي الكبير، إضافة إلى الجهود الرائعة لمنظمات الصحة العالمية والاجتماعية في العالم.
قبل مدة قصيرة، زرت دار الرعاية الاجتماعية في الدمام وهي إحدى فروع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية والتي تأسست في عام ١٩٧٢، وظيفتها الأساسية تقديم الرعاية المتكاملة للمسنين والمسنات، ليعيشوا في بيئة صحية ونفسية واجتماعية سليمة تكفل لهم حياة كريمة، تُنسيهم ــ وليتها تستطيع ذلك ــ غدر الزمان وظلم الإنسان.
وأنا أصعد تلك الدرجات الطويلة والكثيرة التي ستأخذني إلى تلك الدار، كانت الأحاسيس والمشاعر تختلط بالأفكار والقناعات، وكانت الأماني والتطلعات تتماهى مع الصور والذكريات. مبنى رائع ونظيف ومزود بكل وسائل العلاج والراحة والترفيه، والابتسامات تُصافحك في كل مكان، والوجوه التي سكنتها التجاعيد تبحث عن زائر جديد، والأنات والآهات المنبعثة من بقايا العمر الذي رحل تعزف ألحان الهجر والفراق والنكران، والنظرات الحائرة والمترعة بالوجد والحيرة تطل بحسرة من زوايا النسيان.
في تلك الدار التي ستسكنني للأبد، قصص وحكايات تستحق أن تُروى على مسامع الزمن، ومواقف وأحداث آن لها أن تُنشر في سجلات الحياة، وتجارب وخبرات بحاجة لآن تُوثّق في قوائم الإلهام.
في تلك الدار المسيّجة بكل دهشة السنين ومرارة الحنين، التقيت بفنان تشكيلي يسكن الدار منذ سنين حوّل غرفته إلى معرض فني تتناثر فيه لوحات جميلة وأشغال ومنحوتات رائعة، وموظف مازال في كامل أناقته فقد القدرة على الكلام ولكن ثمة ضجيج وصخب في عينيه الغائرتين، وأب في غيبوبة منذ سنين تتسارع أنفاسه حينما تقترب من سريره ظناً منه بأنك أحد أولاده الذين نسوه. وفي القسم النسائي، قصص وحكايات أخرى تُدمي القلب وتوجع الروح.
دخلت تلك “الدار” أحمل في قلبي كل معاني الشفقة والرحمة لهذه الشريحة المنسية، وخرجت منها ــ ولا أظنني قد خرجت ــ أشفق على نفسي، بل وعلى المجتمع بأكمله.
المجتمع الذي يتنكر لمن كان له الفضل في تكوينه وتطوره وازدهاره، مجتمع مريض تُسيطر عليه النزعة الأنانية وتغيب عنه القيم الإنسانية.
دار المسنين قد تكون داراً للعجزة، ولكن العجز/العار الحقيقي هو الذي يسكن المجتمع.