معا على الطريق..
13 نوفمبر 2005 - أ . عالية فريدهاجت بي الأحزان، ومزقني الألم وقطع نياط قلبي الشوق إلى محياه، وأخذني الحنين للنظر إلى هامته الشامخة ووجه المتلألأ بالنور وعبق الإيمان.. إنها والله سمات المتقين في رجل الصدق والوفاء الذي مثل الحق بكل حروفه وأبجدياته ومعانيه طيلـة مسيـرة حافلة بالتضحية والعطاء، فحقا يقاس الرجال بالحق ولايقاس الحق بالرجال، فهانذا في هذه اللحظات أقف خجلة من نفسي لأنني أصغر من أن أعدد مزاياه أو أتحدث عن سجاياه أو أصف خلق علما كبير أسمه السيد محمد مهدي الحسيني الشيرازي.سلاما لك مني أيها الرجل العظيم سلاما يعجز عن وصفه الواصفون، فأنا حيرة ومشاعري مختلجة بأي تعابير أو صور أرسمها له فإنها لاتكفي وقد تعجز قواميس اللغة عن إحصائها لوإجتمعت.. لقد ترك رحيله جرحا غائرا وعميقا، وكلماتي هذه ليست مجرد رثاء بل هي قطوف من درب طويل مشيت فيه أستنير بفكره وأحتذي به رغم أشواك الطريق ورغم الصعاب لم أكن يوما بعيدة عن أهدافه وقضيته الخالدة لمليار ألف مسلم.
سيدي إنني اليوم أقف وقفة إجلال وإكبار وأنحني أمام عظمة
أفكارك ونبل مواقفك الذي ناديت بها منذ زمن بعيد، أمام إنجازاتك الرائعة التي إستنهضتني من غشوتي أنا وزميلاتي في الدرب، فكلما تذكرتها أو قرأتها كلما أذددت فخرا وتألقت شرفا وإباءا بمعرفتي بك، هذه المعرفة التي لم تزدني إلا يقينا وثباتا وتمسكا بالحق يـا مشكاة الآدميين ويـا مصباح الدجى في كوكب الظلمات..
أيها الأب الرحيـم والرجل العظيم والمعلـم الكريم، كيف يجهلك من عرفك وكيف لمن عرفوك أن يجهلوك، وكيف ينساك من تتلمذوا وتربواعلى يديك حتى أصبحت حياتهم إشراقة منك.. وكيف تستطيع أمة أن تتنكر لك وقد أو قظتها من سباتها العميق وهي راقدة مخدرة قد أرهقها الضعف والذل، لتجعلها تستفيق من نومتها في وحل التخلف والظلم والجهل والحرمان، فتبا لأمة جهلتك وبئسا لقوم جحدوك.
أيها العملاق الكبير.. هاهي الذكريات تطوف بي مع طوافة المشيعيين وهم يرفعون جثمانك الطاهر لتأخذني إلى هدوءك الإنسيابي وصوتك الخفيض وإلى عقلك المتوقد بالعلم الذي يجذب كل من إستمع إليك لأن يواكب طلاقتك في الحديث خطوة خطوة وربما لايستطيع فيحاول أن يصغي جيدا لمـا تقول لأن كلماتك نافذة إلى القلب ولأنه مأسور إلى النور الذي يشع منك، إلا أنه يظل يبقى يردد مايسمعه منك حتى بعد أن يغيب حضوره الهفهاف عنك، فكل من تحدث معك راوده الشوق للعودة إليك.
سيدي.. كم إفتقدت أمتنا عظيما مثلك ستظل تنعاه في كل حين فقيمتك كبيرة وأهميتك بالغة لما تحمل من مكانة علمية ودينية وتاريخية وثراء فكري إجتماعي ثقافي سياسي روحي تهفوا إليه العقول والقلوب وترتاح في ظلال أروقته الأنفس، فما أكثر الذين كانوا يقصدوك من المثقفين والمفكرين والعلماء والمحرومين والمستضعفين والمضطهدين ليشربوا من آرائك وأحكامك وفقهك يـاصاحب الفكر الخلاق والعلم الحر الصافي والزهد الذي لايعادله زهد ليس في موقعك وموقعيتك فحسب بل في الحياة كلها الذي ملئتها بتواضعك الجم وروحك العذبة.
سيدي.. أيها الشيرازي العظيم إننا اليوم لازلنا ضمأى مع ذكرى رحيلك فكلنا مشتاقون إليك، وكلنا نحمل من المبادئ والقيم ومن المعاني والعبر ومن العلم والعمل الشيئ الكبير، فقد تعلمنا منك الكثير وعلى مر التاريخ حملنا معك إنجازاتك المميزة، ودروسك القيمة، ومواقفك الراقية، وعلمك النابض الذي سجلته أسفار التاريخ ودونته في ألف وثلاثمائة سفر بأناملك المضيئة، فكم شاعت كتاباتك لتكن الأداة العاملة والمحركة لهممنا مع حجم التغيرات التي ظهرت على فكرنا وسلوكياتنا، وكان لها الأثر الواضح على أنماط حياتنا المختلفة وعيا وفكرا وثقافة ودينا، إجتماعا وإقتصادا وتعايشا وسلاما.
وفي نهاية الستينات وفي وسط السبعينات من قرن مضى كنت فيه رمزا عبرت فيه عن وجدان الأمة حيث كان إرتباطي بك، وفي أول لقاء معك حيث إحتضنتني بهدوءك المتزن، وأحطتني بنظراتك الواعية وأخذ ت ترعاني وترعى الأغراس بل كل الأغراس ممن كانوا معي في هذا الحقل، كنت أشكو إليك من وهن أمتي وتقاذف التيارات بها وما عصف بها من صراعات – رأسمالية – إشتراكية وشيوعية، ومادخل عليها من غزو وأفكار تغريبية لوثت ثقافتنا، وقذفت بأبنائنا وبمجتمعاتنا نحو أمواج التشكيك في الدين والعقيدة حتى إختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل والخير بالشر والخطأ بالصواب فأصبحت الرؤية مشوشة حول مايجري، ورسالية الطريق باتت في خطر، حينها هوى مع الدوامة من هوى ونجا معها من نجا، وعندما لجأت إليك عانقتني بتوجيهاتك وأمرتني بالتزود من فكرك ودفعتني للتسلح بالعلم برفقة صحبتي التي كانت ترافقني، فكنا معا وسرنـا معا على نهجك، وضليت ترعانا ونحن بذورا صغيرة قريبة منك تسقينـا من علمك وإرشاداتك.. فماهي إلا بضع سنوات حتى ترعرعنا وأصبحنا أعواد صلبة لاتهزها ريح أو تنكسـر.
ظلت الأطياف متوهجة في ذاكرتي، لتطمئنني كي أكون على ثقة إنك ستبقى في ذاكرة أجيال المستقبل التي ولدت، والتي ستولـد لتصـوغ منها شموسا تثري واقع أمتنا وثقافتها بعون الله.
ولابد من كلمة حق في علو مقامك وعظم شأنك وشرف هيبتك،
فأنت أيها الإمام إضافة إلى ما جمعت من مزايا وصفات متميزة كنت أمة في رجل ورجل في أمة، وهكذا عبر التاريخ عنك، فقيل أن الإمام الشيرازي – طيب الله ثراه – «يمثل حضارة علمية إسلامية ضخمة بزغت شمسها في مطلع القرن الماضي أرست الدعائم الفكرية النهضوية لإنتشال العالم الإسلامي من وسط سبات عميق، وإن إطروحاته إستبقت الزمن في إكتشافاتها وتنبؤاتها الفكرية والعلمية والنظرية الجديدة، كما صاغ الفكر الإنساني بكل شاردة وواردة من أعماق المحيطات إلى أعالي الفضاء إلى مختلف مجالات العلم وتطوره من الحاسوب إلى الطب إلى الإستنساخ…»[1] .
2- ومن صفاته أيضا: مواكبته للحركة العصرية بعيدا عن الجمود والتخلف فإهتم بالثقافة الحقوقية وأصل لمفهوم حركة حقوق الإنسان، فسجل موسوعة متكاملة حول حقوق الإنسان وحقوق المرأة ودورها في الحياة الأسرية الإجتماعية والعملية.
3- العقلية المنظمة في النهج المؤسسي في التفكير الشخصي القائم على تبني مذهب التخطيط المؤسسي القائم من صلب العمل الجماعي، ويظهر ذلك من خلال المؤسسات العلمية المنتشرة في كل بقاع العالم من مراكز ومدارس وحوزات كانت نموذجا رائعا لمفهوم التوجيه والإعداد التربوي، حيث إنعكست ملامح هذه التربية على أجيال مختلفة وعلى علاقة من كانوا ينهلون من علمه الكثير في نتاجهم المتنوع من أقصى العالم إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه في سوريا ولبنان والكويت وإيران، وفي أوربا في أمريكا وفي بريطانيا وأفريقيا لاترى إلا رايات تحمل نهج محمد المهدي الشيرازي[2] .
4- إهتمامه بوحدة الأمة وحريتها ودعوته لضرورة الإخوة الإسلامية، ورفض العنف والإستبداد في حياته وتميزه بالإنفتاح الفكري على الأمة والعالم مؤسسا وداعيا لثقافة عصرية جديدة في التسامح واللاعنف الذي فاق فيها «ثورو» في الصعيد المدني و«غاندي» في اللاعنف و«مارتن لوثر كنج» في العصيان المسالم في رؤائهم التنظيرية والتطبيقية، حيث خط أسسا متكاملة الأبعاد لنظرية عصرية تضع العلاجات الدنيوية محطا والأجر والإثابة معيارا فكان – رحمه الله – الموسوعي المعرفي في الدين والعلم والبحث[3] .
سيدي: أيها الراحل الكبير.. سطوري هذه ماهي إلا جزء من كل أسأل الله أن يجزيك عنا خير الجزاء لما سقيت لنا وأن يتغمدك برحمته في أعلى عليين وفي نعيم مقيم مع أولياءه الصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. ونم قرير العين فإننا نعاهدك إننا سنبقى على الطريق معا ولن ننسى كلماتك الرائعة في آخر لقاء جمعنا وأنت تردد قول الإمام علي «لاتستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه» عليكن بـالعلم، التقوى، الكتابة، الخطابة، إقامة مجالس أهل البيت فهم سفينة النجاة..